وتمتنع مخالفته ، بخلاف سائر الفرق فإنهم جروا على ضابط واحد ، وإن كان فيهم من هو أشد من أصحاب التأويل.
الصنف الثاني : أصحاب التخييل ، وهم الذين اعتقدوا أن الرسل لم يفصحوا للخلق بالحقائق ، إذ ليس في قواهم إدراكها ، وإنما أبرزوا لهم المقصود في صورة المحسوس ، قالوا : ولو دعت الرسل أممهم إلى الإقرار برب لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا محايثه ، ولا مباينا له ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ، ولا فوقه ، ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، لنفرت عقولهم من ذلك ، ولم تصدق بامكان هذا الوجود ، فضلا عن وجوب وجوده ، وكذلك لو أخبرهم بحقيقة كلامه ، وأنه فيض فاض من المبدأ الأول على العقل الفعال ؛ ثم فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لم يفهموا ذلك ولو أخبروهم عن المعاد الروحاني بما هو عليه لم يفهموه ، فقربوا لهم الحقائق المعقولة بإبرازها ذي الصور المحسوسة ، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور ومصيرها إلى جنة فيها أكل وشرب ولحم وخمر وجوار حسان ، أو نار فيها أنواع العذاب ، تفهيما للذات الروحانية بهذه الصورة وللألم الروحانى بهذه الصورة.
وهكذا فعلوا في وجود الرب تعالى وصفاته وأفعاله ، ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جدا أكبر من كل موجود ، وله سرير عظيم وهو مستو على سريره ، يسمع ويبصر ويتكلم ويأمر وينهي ويرضى ويغضب ، ويأتي ويجيء ، وينزل ، وله يدان ووجه ويفعل بمشيئة ، وإذا تكلم العباد سمع كلامهم ، وإذا تحركوا رأى حركاتهم ، وإذا هجس في قلب أحد منهم هاجس علمه. وأنه ينزل كل ليلة إليهم إلى سمائهم هذه فيقول : «من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» (١) إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية ، قالوا : ولا يحل لأحد أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور لأنه يفسد ما وضعت له الشرائع والكتب الإلهية. وأما الخاصة فإنهم يعلمون أن هذه أمثال مضروبة
__________________
(١) حديث النزول تقدم تخريجه أكثر من مرة.