فإذا طرحت أمام الإنسان قضية ما ، لا يدري هل هي صحيحة وصادقة أو زائفة وموهومة ، يُرجعها إلى تلك القضايا والمعارف الضرورية ، فإن صدّقت تلك هذه ، كانت قضية حقّة ، وإن لم تصدّقها كانت قضية باطلة.
وعلى هذا ، فكل إنسان متطلب للحقّ ومتحرٍّ للحقيقة يجب أن يصنّف قضاياه ، ويقسمها إلى قسمين : بديهية ونظرية ، ثمّ يحتفظ بالأُولى لتكون مفتاحه للوصول إلى الثانية ، وحلّها ، وإدراك صدقها أو بطلانها.
مثلاً : إذا علمنا أنّ زاوية (أ) تساوي زاوية (ب) ، وعلمنا أيضاً أنّ زاوية (ب) تساوي زاوية (ج). ولكن لم نعلم هل زاوية (أ) تساوي زاوية (ج) أو لا. فالعلمان المتقدمان ، يكونان مفتاحاً لحل المشكلة ، واكتشاف حكم القضية الثالثة ، فلا نتحرج هنا من القول بأنّ زاوية (أ) تساوي قطعاً زاوية (ج). وذلك لأنّ قانون المساواة من القضايا البديهية الّتي يدركها العقل في الأمور الكمية. وهكذا إذا كان زيد وعمرو متساويين في الطول ، وعمرو وبكر متساويين في الطول ، فزيد وبكر متساويان في الطول.
فالقضايا المجهولة المشكوكة صحةً وبطلاناً ، تنتهي إلى بديهيات عقلية ، ولو بوسائط متعددة ، وهي الكاشفة لصدقها أو بطلانها.
حتّى أنّ التجربة الّتي احتلت الصدارة في الفلسفة والعلوم الحديثة في مجال اكتشاف الحقائق ، لا تستغني عن معرفة عقلية بديهية هي الضامنة لصحة النتيجة ، والتجربة بحدّ ذاتها غير كافية في هذا المجال. وقد سبق أن ذكرنا عند البحث عن أدوات المعرفة ، أنَّ تبسيط وتعميم نتيجة التجربة إلى جميع الأفراد والموارد المتماثلة في الحقيقة قائم أساساً على قضاء العقل بأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
والكثير من المتجددين يزعمون أنّ الفلسفة الأرسطية فلسفة فكرية بحتة ، وأنّ الفلسفة الغربية الحديثة الّتي وضع «بيكون» (١) (١٥٦١ ـ ١٦٢٦ م) أساسها ، علمية تجريبية ؛ ولكنّه زعم غير خال عن المغالطة ، فإنّهم إن أرادوا أنّها
__________________
(١)nocaB sicnarF.