المدينة ، وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ، ولا برهبة إلا قليلا من الأنصار أسلموا فى الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم ، ثم أذن له فى الجهاد ، ثم أمر به ، ولم يزل قائما بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها ، من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ له كذبة واحدة ، ولا ظلم لأحد ، ولا غدر بأحد ، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف بالأحوال ، من حرب وسلم ، (وأمن) وخوف ، وغنى وفقر ، وقدرة وعجز ، وتمكن وضعف ، وقلة وكثرة ، وظهور على العدو تارة. وظهور العدو تارة ، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها ، حتى ظهرت الدعوة فى جميع أرض العرب التى كانت مملوءة من عبادة الأوثان ، ومن أخبار الكهان ، وطاعة المخلوق فى الكفر بالخالق ، وسفك الدماء المحرمة ، وقطيعة الأرحام ، ولا يعرفون آخرة ولا معادا ، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم ، حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا : ما كان الذين صحبوا المسيح أفضل من هؤلاء. وهذه آثار علمهم وعملهم فى الأرض وآثار غيرهم تعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين. وهو صلىاللهعليهوسلم مع ظهور أمره ، وطاعة الخلق له ، وتقديمهم له على الأنفس والأموال ، مات ولم يخلف درهما ولا دينارا ، ولا شاة ولا بعيرا ، إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودى على ثلاثين وسقا (١) من شعير ابتاعها لأهله ، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله ، والباقى يصرفه فى مصالح المسلمين ، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئا من ذلك وهو فى كل وقت يظهر من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه. ، ويخبرهم بما كان وما يكون ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويشرع الشريعة شيئا بعد شيء ، حتى أكمل الله دينه الّذي بعثه به ، وجاءت شريعته أكمل شريعة ، لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه ، لم يأمر بشيء
__________________
(١) وسقا : حملا.