مبادئها ثمّ الرجوع منها إليها ، فتعريف بعضهم له بأنّه ترتيب أمور معلومة لتؤدّي إلى مجهولة مختصّ بالانتقال الثاني وقلّما يتفق مثله ابتداء ، والذي يتفق مثله ابتداء يكون حدسا ، لأنّ الحدس لا يشترط فيه الانتقال من المطالب بل هو انتقال من المبادي إلى المطالب ابتداء.
وتحقيق ما ذكرناه أنّه إذا كان لنا مطلوب كحدوث العالم مثلا ، فإنّا نستحضره ثمّ نرجع إلى خزانة خيالنا فتحصل منها مقدّمات صالحة للاستدلال على المطلوب ، نرتبها ترتيبا مؤدّيا إلى اطّلاع عليه ، فذلك هو النظر (١) وإفادته العلم صحيحة ضرورية فطرية ، فإنّ من علم الملازمة بين أمرين ثمّ علم وجود الملزوم فإنّه يحصل له العلم باللازم حصولا بيّنا.
ودفعه مكابرة فخلاف السمنيّة في ذلك مطلقا والمهندسين في الإلهيات باطل ،
__________________
ولعلّ الوجه فيه أنّ العلم الحاصل من التقليد هو العلم العادي كما هو الغالب في التقاليد ، وهو الظن الاطمئناني ، وهو يحتمل الخلاف ، والذي يحتمل الخلاف واضح البطلان في أصول الدين ، والمطلوب فيها هو العلم القطعي الذي لا يحتمل الخلاف ، وإلّا فالعقل لا يفرق بين أسباب العلم القطعي سواء كان عن تقليد أو نظر ، نعم إن حصل العلم القطعي من التقليد فيكفي في المطلوب كما حقّقه الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره ، ولكن الشأن في حصول العلم القطعي من التقليد كما عرفت وجهه.
فالحقّ ما ذهب إليه المشهور من عدم كفاية التقليد في أصول الدين ، نعم لو قلنا بالعجز عن اليقين وإن أحاله بعض فلا مناص لهذا الظانّ عن التديّن بظنّه الحاصل له عن تقليده بعد إعادة النظر ، فيكون كالعلم في حقّه إذا كان عن قصور لا تقصير بحكم العقل.
وهنا إشكال بالنسبة إلى حال المكلّفين في زمن النبي صلىاللهعليهوآله في اعتقاداتهم بأصول الدين ، وقد ذكره المحقق الدواني (ره) في شرح العقائد العضدية وأجاب عنه بجواب كاف شاف ، فراجع والله الموفق.
(١) وقد حثّ الدين الإسلامي المقدّس على النظر في أصول الدين وتحصيل العلم واليقين فيها ، وورد عن الأئمة المعصومين عليهمالسلام في الحثّ على النظر والتحريض على المعرفة كلمات جامعة.
قال الشيخ الأعظم المفيد قدسسره في الإرشاد : إنّ ممّا حفظ عن الإمام الصادق عليهالسلام في وجوب المعرفة بالله تعالى وبدينه قوله : «وجدت علم الناس كلّهم في أربع : أولهما : أن تعرف ربّك ، والثاني : أن تعرف ما صنع بك ، والثالث : أن تعرف ما أراد منك ، والرابع : أن تعرف ما يخرجك عن دينك».
ثم قال الشيخ المفيد (ره) : وهذه أقسام تحيط بالمفروض من المعارف ، لأنّه أول ما يجب على العبد معرفة ربّه جلّ جلاله ، فإذا علم أنّ له إلها وجب أن يعرف صنعه إليه ، فإذا عرف صنعه إليه عرف به نعمته ، فإذا عرف نعمته وجب عليه شكره ، فإذا أراد تأدية شكره وجب عليه معرفة مراده ليطيعه بفعله ، وإذا وجبت عليه طاعته وجبت عليه معرفة ما يخرجه عن دينه ليجتنبه فيخلص به طاعة ربّه وشكر إنعامه.