(الوجه الثاني) أن دعوة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هي دعوة جميع المرسلين قبله من أولهم إلى آخرهم ، فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم ، فإن جميع الرسل جاءوا بما جاء به ، فإذا كذبه المكذب فقد زعم أن ما جاء به باطل ، وفي ذلك تكذيب كل رسول ارسله الله وكل كتاب أنزل الله ، ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق وأنه كاذب مفتر على الله ، وهذا في غاية الوضوح وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحق فصدقهم الخصم ، وقال هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون ، ثم شهد آخر على شهادتهم سواء فقال الخصم هذه الشهادة باطلة وكذب لا أصل لها ، وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا ، ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم وأنها شهادة حق مع قوله أن الشاهد بها كاذب فيما شهد به. فكما أنه لو لم يظهر محمد صلىاللهعليهوسلم ، لبطلت نبوات الأنبياء قبله فكذلك إن لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الأنبياء قبله.
(الوجه الثالث) أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل ، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به إلا ولمحمد صلىاللهعليهوسلم ، مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها وإن لم يكن من جنسها ، فآيات نبوته أعظم وأكبر وأبهر وأدل ، والعلم بنقلها قطعي ، لقرب العهد ، وكثرة النقلة ، واختلاف أمصارهم وأعصارهم ، واستحالة تواطئهم على الكذب ، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره وبلده ، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك ، والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت ، كالمكابرة في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده هو من البلاد والأقاليم والجبال والأنهار ، فان جاز القدح في ذلك كله ، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أجوز وأجوز ، وان امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلىاللهعليهوسلم ، وآيات نبوته أشد ، ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا كفر بالجميع ، وقال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، كما قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً