لا يجوز عليه هذه الصفات. ولست أذكر ما انكشف لي فيه ، فإن الصورة المجملة لا تفيد كشفا بل تقليدا ؛ ولست بالتقليد أولى من غيري ، ولا منفعة في التقليد في المعقولات. وأما كشفه ففيه طول ، ولو لم يطل أيضا لكان الاقتداء برسول الله صلىاللهعليهوسلم في الكف عن ذكره أولى ، وأنه لم يذكر سر الروح وهذا بحث عنه ، فلا ينبغي أن يزاد عليه في الإيضاح.
وأما ما شاهده الأنبياء والأولياء من صورة الملائكة والشياطين فهي في الأكثر أمثلة تنافي معانيها وتقوم مقام مشاهدة عين المعاني ، كما يرى الأنبياء في المنام ويستفاد منهم ؛ وإنما المشاهد في المنام مثلهم ، فأما أشخاصهم فلم تنتقل عن مواضعهم ، فذكرت تفصيل ذلك في كتاب" عجائب القلب". وكذلك القول في الجن ؛ ولذلك ترى صورا مختلفة ، إذ التمثيلات لا تنحصر وجوهها ، كما أن من يرى النبيصلىاللهعليهوسلم لا يراه على صورة واحدة. إلا أن هذه التمثيلات تكون للأنبياء والأولياء في اليقظة ، ولغيرهم تكون في المنام فقط. وفي الصحيح أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم ير جبريل على صورته إلا مرتين مع كثرة رؤيته له في كل حين.
وأما الكلام المسموع من المصروع فهو كلامه ، وقول القائل تكلم الجني بلسانه كلام غير معقول. نعم ، الجن سبب لوقوع خواطر وتمثيلات وخيالات في قلبه ، تنبعث بسببه داعية الكلام والحركة ؛ وكلامه مثل كلام النائم ، والنائم هو المتكلم لا غيره. وأما إخبار المصروع بالغيب فسببه أن جميع ما كان وما يكون مسطور ثابت في شيء خلقه الله ، تارة يسمى لوحا ، وتارة إماما ، وتارة كتابا ، كما قال الله تعالى: (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩ ، يونس : ٦١ ، هود : ٦ ، النمل : ٧٥ ، سبأ : ٣] (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢]. وثبوت الأشياء فيه كثبوت القرآن في دماغ الحافظ للقرآن ، وليس مثل الرقوم المكتوبة المرتبة في جسم متناه ؛ لأن غير المتناهي لا يمكن أن يكتب في المتناهي كهذه الكتب الظاهرة. والقلب مثل مرآة ، واللوح مثل مرآة ، ولكن بينهما حجاب ، فإذا ارتفع تراءى في القلب الصور التي في اللوح. والحجاب هو الشاغل ، والقلب في الدنيا مشغول ، وأكثر اشتغاله التفكر فيما يورده الحس عليه ؛ فإنه من الحواس في شغل دائم. فإذا ركدت الحواس بالنوم أو الصرع ، ولم يكن من فساد الأخلاط شاغل آخر في الباطن ، ربما يرى القلب بعض تلك الصور المكتوبة في اللوح ؛ وتحقيق هذا يطول ، وقد أشرت إلى ملامح منه في كتاب" عجائب القلب". وكذلك ما يظهر عند سكرات الموت حتى ينكشف للإنسان موضعه من الجنة فيكون بشرى ، أو من النار والعياذ بالله فيكون نذيرا ؛ لأن الحواس تركد في مقدمات الموت قبل زهوق الروح.
وأما حديث غذاء الشيطان من العظم ، وحصاصه ، وحديث الحوض ، والبرزخ فما عندي في تفصيل المراد به تحقيق ؛ بل بعض ذلك مما أوصي بالكف فيه عن التأويل ، وبعضه مدركه النقل المحض ، وبضاعتي في علم الحديث مزجاة ، فموضع الحوض لا يعرف إلا بمجرد النقل فليرجع فيه إلى الأحاديث. والبرزخ يمكن أن يكون المراد به مرتبة بين الجنة والنار لمن ليست له حسنة ولا سيئة ، كالمجنون ، والذي لم تبلغه الدعوة. والحكم بأن المراد إحداهما دون الأخرى تخمين إلا أن يدل عليه النقل ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.