قلنا : هيهات فقد بيّنا بالبرهان القطعي في كتاب المقصد الأقصى في معاني أسماء الله الحسنى أنه لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله ، وأن الخلائق وإن اتسعت معرفتهم وغزر علمهم ، فإذا أضيف ذلك إلى علم الله سبحانه فما أوتوا من العلم إلا قليلا ، لكن ينبغي أن يعلم أن الحضرة الإلهية محيطة بكل ما في الوجود إذ ليس في الوجود إلا الله وأفعاله ، فالكل من الحضرة الإلهية كما أن جميع أرباب الولايات في المعسكر حتى الحراس هم من المعسكر فهم من جملة الحضرة السلطانية ، وأنت لا تفهم الحضرة الإلهية إلا بالتمثيل إلى الحضرة السلطانية ، فاعلم أن كل ما في الوجود داخل في الحضرة الإلهية ، ولكن كما أن السلطان له في مملكته قصر خاص وفي فناء قصره ميدان واسع ولذلك الميدان عتبة يجتمع عليها جميع الرعايا ولا يمكنون من مجاوزة العتبة ولا إلى طرف الميدان ثم يؤذن لخواص المملكة في مجاوزة العتبة ودخول الميدان والجلوس فيه على تفاوت في القرب والبعد بحسب مناصبهم ، وربما لم يطرق إلى القصر الخاص إلا الوزير وحده ، ثم إن الملك يطلع الوزير من أسرار ملكه على ما يريد ويستأثر عنه بأمور لا يطلعه عليها ، فكذلك فافهم على هذا المثال تفاوت الخلق في القرب والبعد من الحضرة الإلهية ، فالعتبة التي هي آخر الميدان موقف جميع العوام ومردهم لا سبيل لهم إلى مجاوزتها ، فإن جاوزوا حدهم استوجبوا الزجر والتنكيل ، وأما العارفون فقد جاوزوا العتبة وانسرحوا في الميدان ولهم فيه جولان على حدود مختلفة في القرب والبعد وتفاوت ما بينهم كثير ، وإن اشتركوا في مجاوزة العتبة وتقدموا على العوام المفترشين. وإما حظيرة القدس في صدر الميدان فهي أعلى من أن يطأها أقدام العارفين وأرفع من أن يمتد إليها أبصار الناظرين ، بل لا يلمح ذلك الجناب الرفيع صغير وكبير إلا غص من الدهشة والحيرة طرفه فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير ، فهذا ما يجب على العامي أن يؤمن به جملة وإن لم يحط به تفصيلا ، فهذه الوظائف السبع الواجبة على عوام الخلق في هذه الأخبار التي سألت عنها وهي حقيقة مذهب السلف ، وأما الآن فنشغل بإقامة الدليل على أن الحق هو مذهب السلف.
الباب الثاني
في إقامة البرهان على أن الحق مذهب السلف وعليه برهانان : عقلي وسمعي. أما العقلي فاثنان كلي وتفصيلي. أما البرهان الكلي على أن الحق مذهب السلف فينكشف بتسليم أربعة أصول هي مسلمة عند كل عاقل.
الأول : أن أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد بالإضافة إلى حسن المعاد هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإن ما ينتفع به في الآخرة أو يضر لا سبيل إلى معرفته بالتجربة ، كما عرف الطبيب إذ لا مجال للعلوم التجريبية إلا بما يشاهد على سبيل التكرر ، ومن الذي رجع من ذلك العالم فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضر وأخبر عنه ولا يدرك بقياس العقل ، فإن العقول قاصرة عن ذلك ، والعقلاء بأجمعهم معترفون بأن العقل لا يهتدي إلى ما بعد الموت ولا يرشد إلى وجه ضرر المعاصي ونفع الطاعات. لا سيما على سبيل التفصيل والتحديد كما وردت به الشرائع بل أقروا بجملتهم أن ذلك لا يدرك إلا بنور النبوة وهي قوة وراء العقل يدرك بها من أمر الغيب في