وحقيقته وعرفت عياره من الصنجات المعروفة عندي ، ولكني أشتهي أن أعرف مثالا لاستعمال هذا الميزان في مظان الأشكال في العلوم فإن هذه الأمثلة واضحة بأنفسها لا يحتاج فيها إلى ميزان وبرهان.
فقلت : هيهات ، فبعض هذه الأمثلة معلومة بأنفسها بل هي متولدة من ازدواج الأصلين إذ لا يعرف كون هذا الحيوان مثلا عقيما إلا من عرف بالحس أنه بغل وبالتجربة أن البغل لا يلد ، وإنما واضح بنفسه هو الأوّل. فأمّا المتولّد من أصلين فله أب وأم فلا يكون أوليّا واضحا بنفسه بل بغيره ، ولكن ذلك الغير أعني الأصلين قد يكون واضحا في بعض الأحوال ، وذلك بعد التجربة وبعد الإبصار ، وكذلك كون النبيذ حراما ليس واضحا بنفسه بل يعرف بأصلين.
أحدهما : أنه مسكر وهذا يعلم بالتجربة.
والثاني : أن كل مسكر حرام وهذا بالخبر الوارد عن الشارع صلىاللهعليهوسلم. فهذا يعرفك كيفية الوزن بهذا الميزان ، وكيفية استعماله. وإن أردت مثالا أغمض من هذا فأمثلة ذلك عندنا لا تنحصر ولا تتناهى بل بهذا الميزان عرفنا أكثر الغوامض فاقنع منه بمثال واحد.
فمن الغوامض أن الإنسان ليس حادثا بنفسه إذ له مسبب وصانع وكذلك العالم. فإذا راجعنا هذا الميزان عرفنا أن له صانعا وأن صانعه عالم. فإنا نقول : كل جائز فله سبب ، واختصاص العالم أو الإنسان بمقداره الذي اختلف به جائز. فإذن يلزم منه أن له سببا ولا يقدر على التشكك في هذه النتيجة من سلم الأصلين وعرفهما. ولكن إن شك في الأصلين فيستنتج أيضا معرفتهما من أصلين آخرين واضحين إلى أن ينتهي إلى العلوم الأوّلية التي لا يمكن التشكيك فيها ، فإن العلوم الخفية الأولية هي أصول العلوم الغامضة الجليلة وهي بدورها ، ولكن يستثمرها منها من يحسن الاستثمار بالحراثة والاستنتاج بإيقاع الازدواج بينهما.
فإن قلت : أنا شاك في الأصلين جميعا فلم قلت إن كل جائز فله سبب؟ ولم قلت إن اختصاص الإنسان بمقدار مخصوص جائز وليس بواجب؟ فأقول : أما قولي : كل جائز له سبب ، فواضح إذا فهمت معنى الجائز لأني أعني بالجائز ما يتردد بين قسمين متساويين ، فإذا تساوى شيئان لم يختص أحدهما بوجود وعدم من ذاته لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله بالضرورة وهذا أولى. وأما قولي اختصاص الإنسان بهذا المقدار مثلا جائز وليس واجب ، كقولي : إن الخط الذي يكتبه الكاتب وله مقدار مخصوص جائز إذ الخط من حيث إنه خط لا يتعين له مقدار واحد بل يتصور أن يكون أطول وأقصر. فاختصاصه بمقدار عما هو أطول وأقصر سببه الفاعل لا محالة ، إذ نسبة المقادير إلى قبول الخط لها متساوية ، وهذا ضروري. كذلك نسبة المقادير إلى شكل الإنسان وأطرافه متساوية فتخصيصها لا محالة بفاعل. ثم أترقى منه وأقول : فاعله عالم لأن كل فعل مرتب محكم فيسند إلى علم فاعله ، وبنية الإنسان بنية مرتبة محكمة فلا بدّ أن يستند ترتيبها وتدبيرها إلى علم فاعل بها. فههنا أصلان إذا عرفتهما لم تشك في النتيجة. أحدهما أن بنية الآدمي بنية مرتبة محكمة هذا يعرف بالمشاهدة من تناسب أعضائه