وأما تحديه العرب بمعارضته القرآن ، وتقريعه إياهم بالعجز عن ذلك ، ففي أصحابنا من جعل العلم به ضروريا ، ومن جعله مكتسبا. ومن جعله مكتسبا قال : ليس المرجع بالتحدي إلا أن يعتقد أن له مزية على غيره بسبب ما معه ، وهذا كان حال النبي عليهالسلام مع القوم ، فكان يعتقد أنه خير الناس لمكان ما جاء به من القرآن ، فكيف يمكن إنكار أنه لم يتحداهم بمعارضته ولم يقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله؟
تحدي العرب بالقرآن
وأيضا ، فكتاب الله تعالى مشحون بآيات التحدي ، نحو قوله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] الآية. وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ١٠] إلى غير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.
فإن قيل : ما أنكرتم أن هذه الآيات التي هي آيات التحدي زيدت في القرآن. وجوابنا ، لو أمكن أن يقال في هذه الآيات إنها مزيدة لأمكن أن يقال في قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] وقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] وغيرهما من الآيات ، حتى يجوز ذلك في سائر القرآن ، ومعلوم فساده.
وأيضا ، فإن هذه الآيات مسموعة الآن والتحدي قائم على وجه الدهر ، وفي الفصحاء كثرة في هذه الأزمان فيجب أن يأتوا بمثله ، ومتى قالوا : إن الفصاحة تناقصت الآن كالشعر ، قلنا : إن أمكن أن يقال ذلك في الشعر فلا يمكن في الفصاحة ، ففي خطباء هذه الأزمنة من لا يداني كلامه كلام أفصح فصيح في ذلك الزمان. فهذا واصل بن عطاء ربما تفي خطبة من خطبه بكثير من كلام فصحاء أولئك العرب ، وهذا أبو عثمان عمرو بن عبيد ، ففصل من كلامه ربما يزيد على كلام أبينهم كلاما وأجزلهم لفظا وأفصحهم كلاما ، فكيف يصح ما ذكرتموه.
ترك العرب معارضة القرآن
وأما ترك العرب معارضة القرآن ، وعدولهم عنه إلى المقاتلة فظاهر أيضا ، فإنهم حين أحسوا من أنفسهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن ، تركوه إلى المقاتلة ، وذلك يؤذن بعجزهم عن ذلك ، وإلا فالعاقل إذا أمكنه دفع خصمه بأيسر الأمرين لا يعدل عنه