الاختيار لكي لا يستحق من الله تعالى العقوبة ، ثم إنه لشقاوته وسوء اختياره إذا لم يختر ذلك ، لم يدل على عجز الرسول عليهالسلام ، وكذلك فإن المسلمين إذا أرادوا من النصارى واليهود أن يتركوا المضي إلى الكنائس والبيع وأن يدخلوا في الإسلام على طريق الاختيار ، فإذا لم يتركوا ذلك لم يدل على عجز المسلمين وضعفهم ، وإنما يدل على عجزهم أن لو رجع إليهم بنفع أو ضر ، فأما إذا خلا عن هذين فلا.
ثم يقال لهم : أليس الله تعالى أمر عباده بالطاعة ثم لم يقع ، لم يدل على ضعفه وعجزه ، مع أن الملك في الشاهد لو أمر جنده بأمر من الأمور ثم لم يقع ، لكان ذلك أدخل في عجزه وضعفه من أن لو أراد منهم ذلك الأمر ثم لم يقع ، فهلا فرقتم بين الشاهد والغائب في هذا الغاب.
فإن قالوا : فرق بين الموضعين ، لأن أحدنا لا يأمر إلا مع الإرادة فلهذا يدل على عجزه وضعفه ، وليس كذلك القديم تعالى فإنه قد يأمر بما لا يريده ، فلا يجب ما ذكرتموه ، قلنا لهم : هذا لا يصح لأن الله تعالى لا يأمر بما لا يريده.
وبعد ، فلو كان كذلك لكان يجب إذا أمر الملك بأمر من الأمور من دون الإرادة ثم لا يقع بأن لا يلتفت إليه أن لا يدل على عجزه ونقصه ، والمعلوم خلافه ، على أنا قد بينا أن الأمر لا يصدر أمرا إلا بالإرادة ، وأن هذه القضية تختلف شاهدا وغائبا ، ففسد ما قالوه.
ثم إنا نقول لهم لو وجبت هذه الطريقة في الإرادة لوجبت أيضا في المحبة والرضى ، فكان يجب في الملك إذا أحب فعلا من الأفعال من الرعية ثم لا يقع دل على عجزه ونقصه ، ومعلوم خلافه ، إلا أن هذا مما يلتزمه الأشعري فلا معنى لإلزامه إياه ، وإنما يجب أن نلزمه النجارية ، فإنهم يرومون الفرق بين الإرادة والمحبة والرضى ولا يتأتى ذلك لهم ، فقد بينا فيما تقدم أن هذه الإرادة والمحبة والرضى كلها من باب واحد ، ودللنا عليه بما لا طائل في إعادته.
فإن قالوا : كيف يصح قولكم إن الإرادة والمحبة والرضى من باب واحد مع أن القائل يقول : أحب جاريتي ولا يقول أريدها ولا أرضاها ، فلو كان معنى هذه الألفاظ واحدا لكان يجب جواز استعمال بعضها مكان البعض ، كما في القعود والجلوس وغير ذلك.
قلنا لا شك في أنها متفقة في المعنى حقيقة ، ولا يمتنع في اللفظتين المتفقتين في