وإن كان خلافه من طريق المعنى ، فالكلام عليه هو أنه تعالى لو كان جسما لكان محدثا ، وقد ثبت قدمه لأن الأجسام كلها يستحيل انفكاكها من الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ، وما لم ينفك من المحدث يجب حدوثه لا محالة.
ويمكن إيراد هذه الجملة على وجه آخر ، فنقول : لو كان الله تعالى جسما ـ ومعلوم أن الأجسام كلها متماثلة ـ لوجب أن يكون الله تعالى محدثا مثل هذه الأجسام والأجسام قديمة مثل الله تعالى ، لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل : دلوا على أن الأجسام متماثلة ليتم ما ذكرتم. قيل له : الدليل على ذلك ، هو أن الأجسام لو لم تكن متماثلة لكانت مختلفة إذ لا واسطة بينهما ، فكان يجب افتراقهما في صفة الافتراق في تلك الصفة يكشف عن الاختلاف ، ومعلوم أنها لا تفترق في صفة الافتراق فيها يكشف على الاختلاف ، فيجب أن نقضي بتماثلها.
فإن قال : ولم قلتم ذلك ، وما أنكرتم أنها افترقت في صفة الافتراق فيها ينبئ عن الاختلاف. قلنا : لأن ما يجب لهذا الجوهر في كل حال ، يجب لسائر الجواهر في سائر الأحوال ، وما يجب لهذا بشرط يجب لسائرها كذلك ، وما يصح على هذا الجوهر يصح على سائرها ، وما يستحيل على هذا الجوهر يستحيل على الكل ، فصح أنها تفترق في صفة الافتراق فيها ينبئ عن الاختلاف.
بيان ذلك ، أنه لما وجب كون الجوهر جوهرا في سائر الأحوال وجب ذلك في الجواهر كلها ، ولما وجب كونه متميزا بشرط الوجود وجب ذلك في سائر الجواهر ، ولما صح كونه كائنا في هذه الجهة بدلا من كونه كائنا في الجهة التي هو فيها صح ذلك في كل جوهر ، ولما استحال في هذا الجوهر أن يكون في هذه الجهة وفي غيرها دفعة واحدة استحال ذلك في كل جوهر ، فصح ما قلناه : من أن الجواهر لم تفترق في صفة الافتراق فيها يكشف عن الاختلاف.
فإن قيل : أليس أن بعض الأجسام أسود وبعضها أبيض ، فكيف يصح قولكم : إنها لم تفترق في صفة تنبئ عن الاختلاف ، وهل قضيتم باختلاف هذين الجسمين لافتراقهما في هذا الوجه؟ قلنا : إن هذا الافتراق ليس براجع إلى الجسمين ، وإنما يرجع إلى ما يحلهما. يبين ذلك أن الأسود ليس له بكونه أسود حال ، ولا الأبيض