الكرسي قرار الأرض ، كما أن قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩] على شكل البيض والاستدارة ، وإنما شبههن بالبيض في الوضاءة والصقالة ؛ لأن التشبيه عند العرب يقع لوجه ، والخطاب بلغتهم من الله ومن رسوله ، فمن هناك تشبيه الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم له بالفلاة في السعة والإحاطة ، وهو عند من ذهب إلى أنه جسم فوق السماوات والأرض حاف من أعلاهما ، وقوله سبحانه لا يفيد كونه مكانا لهما ؛ لأن المكان ما يستقر عليه الكائن ، ولم يدل دليل على أنه كذلك ، ولفظ وسع قد يستعمل فيما يحيط من الجهات العلى.
ألا ترى أنه يقال : وسع المغفر رأس الرجل وإن كان فوقه وأمثال ذلك كثيرة ، فعلى هذا ذكره تعالى للكرسي ووسعه للسماوات والأرض إبانة لقدرته وإيضاحا لعظمته ، بحيث أن الكرسي في هذا الحد من العظم والعرش فوقه في ذلك ، ولم يشغله حفظهما عن حفظ السماوات والأرض ، بخلاف ملوك البشر فإنه إذا اتسعت مملكته وقلت أعوانه شغلته جهة عن جهة ، فأخبر تعالى أنه لا يلهيه شأن عن شأن ، ولا يشغله مكان عن مكان ، ولا يفتقر إلى أعوان تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فهذا هو الكلام في هذه المسألة ومن الله نستمد الهداية.
المسألة الثامنة والأربعون [الحكمة من خلق العرش والكرسي]
قال تولى الله هدايته : بهذا الإجماع ونص الكتاب والأدلة النظرية أن الله عزوجل لم يخلق شيئا عبثا ، وانتفاء العبث يوجب أنه تعالى خلق كل مخلوق أوجده لمراد مقصود على وجوب الحكمة والإتقان ، فما المراد بالعرش والكرسي إن كانا أجساما جمادية وهو تعالى منزه عن الجلوس والمكان ، ولما انتفى العبث والجلوس والمكان لزم مراد غير ذلك ، فما هو ذلك المراد الذي من أجله خلقا وقد قال تبارك وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، فوجب