وغير واحد. ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا وهو بيت المقدس ، شكرا لله تعالى ففعل ، فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي بعثه مع دحية بن خليفة ، فأعطاه دحية لعظيم بصرى ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز ، فأحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كبار قريش ، وكانوا بغزة ، فجيء بهم إليه فجلسوا بين يديه. فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان : أنا ، فقال لأصحابه وأجلسهم خلفه : إني سائل هذا عن هذا الرجل ، فإن كذب فكذبوه ، فقال أبو سفيان ، فو الله لو لا أن يأثروا علي الكذب لكذبت ، فسأله هرقل عن نسبه وصفته ، فكان فيما سأله أن قال : فهل يغدر؟ قال : قلت لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها ، يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكفار قريش عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية ، لأن قيصر إنما وفي بنذره بعد الحديبية ، والله أعلم.
ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت ، فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده ، ثم بعد أربع سنين من نصرته وفي بنذره ، والله أعلم ، والأمر في هذا سهل قريب ، إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين ، فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب في الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، كما قال تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ـ إلى قوله ـ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة : ٨٢ ـ ٨٣]. وقال تعالى هاهنا (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثني أسيد الكلابي قال : سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال : رأيت غلبة فارس الروم ، ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس ، والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة.
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين. وقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق ، وخبر صدق لا يخلف ولا بد من كونه ووقوعه ، لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق ، ويجعل لها العاقبة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي بحكم الله في كونه ، وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل.
وقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها ، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه