ولا يخفى / / أن الألفاظ الشّريفة الواقعة بالاصطلاح المطابقة للمعانى متناهية ؛ فكانت مراتب البلاغة المترتّبة على الألفاظ الواقعة متناهية.
وأما إن نظر إلى ما يمكن وقوعه من اللّغات بعد اللغات الواقعة المفروضة :
فلا يبعد فى علم الله ـ تعالى ـ وجود ألفاظ هى أشرف من الألفاظ الواقعة. وتكون مطابقتها لمعانيها أعلى رتبة فى البلاغة من الألفاظ الواقعة وهلمّ جرا إلي ما لا يتناهى.
واذا عرف ذلك فاشتمال القرآن على أصل البلاغة ، وتميزه عن الرّكيك من الألفاظ ؛ أمر متّفق عليه ؛ وهو معلوم بالضرورة عند من له أدنى معرفة باللّغة.
وإنّما الحاجة داعية إلى بيان اشتماله على البلاغة المجاوزة لجملة البلاغات المعهودة لأرباب أهل اللغة نظما ، ونثرا ؛ إذ به يتحقّق الإعجاز من غير حاجة (١) إلى القول أنه لا بلاغة أبلغ من بلاغة القرآن (١) فى علم الله ـ تعالى ـ ومن كان عالما بأركان البلاغة وفنونها ، ومن جميع المعانى الكثيرة فى الألفاظ القليلة مع دقّتها ، وعذوبتها ، والبسيط مع مجانبة الحشو ، وضروب التّأكيد مع تعرى الكلام عما يسفل / ويخل ، ووصف الأحوال والتّشبيهات ، وضرب الأمثال والاستعارات ، وحسن مطالع الكلام ، وعذوبة ومفاصله ، والحذف ، والاضمار ، والتّقديم ، والتّأخير ، مع سلاسة الكلام ، وعذوبة ألفاظه ، ودقّتها ، وتعريها عن المستغث الشّاذ النّادر إلى غير ذلك من أنواع البلاغات ؛ علم أنّ القرآن عند تصفّحه ، والنّظر فى آياته ، ودلالة ألفاظه ؛ مشتمل على جملتها ومحتوى عليها ؛ لم يغادر منها شيئا ، وأنّ افصح فصحاء العرب ، وأبلغ بليغ من أهل الأدب من أرباب النّظم ، والنّثر ، والخطب غايته الاستئثار بنوع واحد من أنواع البلاغة على وجه لوازم غيره فى كلامه لما واتاه ، وكان فيه مقصّرا ، وأنّه لم يجتمع لأحد من البلغاء فى كلامه من أنواع البلاغة ، ما اجتمع فى القرآن الكريم.
فمما كثر معناه وقلّ لفظه مع جزالة الألفاظ ودقّتها وتعاليها عن الرّكيك المستغثّ قوله ـ تعالى ـ : ـ
(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (٢)
__________________
/ / أول ٨٠ / أ.
(١) فى ب (إلى أنه لا بلاغة أبلغ من القرآن)
(٢) سورة الرعد ١٣ / ٤.