كيف وأنه لا يبعد صدور الأمر من الله ـ تعالى ـ للمكلف بفعل شيء مطلقا فى وقت يكون ذلك محدودا فى علم الله ـ تعالى ـ إلى حين ما علم أنه ينسخه عنه لعلمه بأن مصلحة المكلف فى ذلك الأمر لاعتقاده موجبه ، وكف نفسه عما يضربه ، ثم يقطع عنه التكليف فى الوقت الّذي علم أنه ينسخه عنه لعلمه بما فيه من المصلحة ، ودفع المفسدة ، ويكون ذلك الفعل بعينه كالاضافة إلى وقت متعلق المصلحة والحسن ، والإرادة والإضافة إلى غيره متعلق القبح والمفسدة ، والكراهة.
وعلى هذا فيندفع ما ذكروه من البداء والندم ، فإن ذلك إنما يكون أن لو انكشف للبارى ـ تعالى ـ فى ثانى الحال ما أوجب له المنع من الفعل ، والنهى عنه ، ولم يكن عالما به قبله ؛ وليس كذلك.
قولهم : النسخ فى اللغة عبارة عن الرفع (١).
قلنا : وإن كان كذلك الا أنا إنّما نريد بالنسخ : الخطاب القاطع لحكم خطاب شرعى سابق على وجه لو لا الخطاب القاطع له لاستمر ذلك الحكم ودام ، ومن أطلق من أصحابنا لفظ الرّفع على النسخ ، فلم يرد غير ما ذكرناه ، وذلك غير ممتنع. وليس قطع الاستمرار راجعا إلى الكلام القديم الّذي هو صفة الرب ـ تعالى ؛ لاستحالة العدم عليه : إنما هو عائد إلى قطع تعلقه بالمكلف وكفّ الخطاب عنه ؛ وذلك غير مستحيل.
وأما العيسوية : فيمتنع عليهم ، بعد التسليم بصحة رسالته ، وصدقه وقيام المعجزة القاطعة ؛ تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافة ، لا إلى العرب خاصة. وعلم كذلك منه كما علم وجوده ، ودعواه الرسالة ، ومن ذلك ما ورد به الكتاب العزيز وتواتر به الخبر كقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) وقوله
__________________
(١) النسخ فى اللغة : هو الإزالة والنقل. وفى الشرع : هو أن يرد دليل شرعى متراخيا عن دليل شرعى ، مقتضيا خلاف حكمه ، فهو تبديل بالنظر إلى علمنا ، وبيان لمدة الحكم بالنظر إلى علم الله ـ تعالى ـ.
والنسخ (أيضا) فى اللغة عبارة عن التبديل ، والرفع ، والإزالة ، فيقال : نسخت الشمس الظل (أى) أزالته. وفى الشريعة : هو بيان انتهاء الحكم الشرعى فى حق صاحب الشرع. وكان انتهاؤه عند الله ـ تعالى ـ معلوما إلا أن فى علمنا كان استمراره ودوامه ، وبالناسخ علمنا انتهاءه ، وكان فى حقنا تبديلا ، وتغييرا. (كتاب التعريفات للشريف الجرجانى ص ٢٦٨).
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٨.