فقال بعضهم :
المحبة والرضا يعبر بهما عن إنعام الله تعالى وإفضاله ، وهما من صفات أفعاله ،
وإذا قيل «أحب الله تعالى عبدا» ، فليس المراد به تحننا عليه وميلا إليه ، بل
المراد إنعامه على عبده. ومحبة العبد لربه تعالى إذعانه له وانقياده لطاعته ، فإنه
تعالى يتقدس عن أن يميل أو يمال إليه.
ومن هؤلاء من يحمل
المحبة والرضا على الإرادة ، ولكنه يقول : إذا تعلقت الإرادة بنعيم ينال عبدا
فإنها تسمى محبة ورضا ، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا. ومن حمل
المحبة على صفات الأفعال ، حمل السخط أيضا عليها.
ومن حقق من أئمتنا
لم يكع عن تهويل المعتزلة ، وقال المحبة بمعنى الإرادة وكذلك الرضا ، والرب تعالى
يحب الكفر ، ويرضاه كفرا معاقبا عليه. فإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة ، فيترتب على
ذلك أمر معترض في الفصل ليس من مقصوده.
وهو أن تعلم أن
الرب تعالى لا تتعلق به المحبة على الحقيقة ، فإن الإرادة لا تتعلق إلا بمتجدد ،
والرب تعالى أزلي لا أول له ؛ وإنما يريد المريد أن يكون ما ليس بكائن ويجوز كونه
، وإن يعدم ما يجوز عدمه ، وما ثبت قدمه واستحال عدمه ، لم تتعلق به الإرادة.
والذي يكشف الحق
في ذلك ، أن اجتماع الضدين لما كان مستحيلا ، وكانت استحالة واجبة ، يمتنع أن يريد
المريد استحالة اجتماع الضدين. وكذلك من اعتقد أن كون السواد سوادا واجب ، فيستحيل
منه أن يريد أن يكون السواد سوادا ، مع اعتقاده وجوبه وتقديره استمرار الوجود له.
ثم يرجع بنا الكلام إلى غرض الفصل.
قالت المعتزلة :
الرب تعالى مريد لأفعاله سوى الإرادة والكراهة وهو مريد لما هو طاعة وقربة من
أفعال العباد ، كاره للمحظورات من أفعالهم. وأما المباح منها ، وما لا يدخل تحت
التكليف من مقدورات البهائم والأطفال ، فالرب عندهم لا يريدها ولا يكرهها.
ولنا في سبر ذلك
مسلكان في العقل : أحدهما البناء على خلق الأفعال ، وقد بينا أن كل خلق فالله عزوجل ربه وخالقه. ثم يجب من ذلك كونه تعالى مريدا لكل حادث ،
قاصدا إلى إيقاعه واختراعه. والثاني أن نخصص العقل بطرق مغنية عن البناء ، مشوبة
بالسمع ، وموجب الشرع.
فمما يستدل به أن
نقول : اتفق مثبتو الصانع تعالى على تعاليه وتقدسه عن سمات النقص ووضر القصور ؛ ثم
اتفق أرباب الألباب على أن نفوذ المشيئة أصدق آيات السلطان وأحق دلالات الكمال ،
ونقيض ذلك دليل نقيضه. فإذا زعمت المعتزلة أن معظم ما يجري من العباد ، فالرب
سبحانه وتعالى كاره له وهو واقع على كراهته ، فقد قضوا بالقصور ؛ وقالوا : أراد
الرب ما لم يكن ، وكان ما لم يرد ، ولم تنفذ إرادته في خليقته ، ولم تجر مشيئته في
مملكته ، ووقع كثير من الحوادث كما أراد إبليس وجنوده.
وللمعتزلة مراوغات
في محاولة دفع ذلك ، يهون مدرك جميعها والتّفصّي عنها. ونحن نذكر ما يخيلون به ،
ويستذلون به الطعام والعوام.