وهذا الذي ذكروه
دعوى عريّة ، فيقال لهم : بم تنكرون على من يزعم أن الحكم الواجب يتعلق بموجب واجب؟
والحكم الجائز يتعلق بعلة جائزة؟
وأما استشهادهم
بالوجود ، فلا محصول له ؛ فإنا لم نحكم بما قالوه لوجوب وجود القديم سبحانه وتعالى
، بل قضينا به من حيث انتفت الأولية عن وجود الباري سبحانه ، وما لا أول له يستحيل
أن يتعلق بفاعل ، فإن لكل فعل مبتدأ ؛ فاستحال لذلك تعلقه بفاعل ، واستحال أيضا
تعلقه بعلة ، فإن الوجود لا يعلل شاهدا وغائبا.
ثم نقول لهم : قد
عولتم فيما يعلل على الجوار ، وقضيتم بأن الحكم إنما يعلل بجوازه ، ثم عكستم
الجواز وزعمتم أن الواجب لا يعلل ، وما ذكرتموه يبطل في الطرد والعكس.
فأما تعليل الجائز
، فباطل بالوجود ؛ فإنه جائز للحوادث ، وهو غير معلل.
فإن قالوا : وجود
الحوادث وإن لم يعلل فهو متعلق بالفاعل ، ومن حكم الجائز ، أن يتعلق بمقتض ، ثم قد
يكون المقتضى علة ، وقد يكون فاعلا؟ قلنا : الوجود عندنا حال للجوهر ، والجوهر كان
في عدمه جوهرا ، ثم طرأ عليه حال الوجود ؛ فهلا زعمتم أن كون العالم عالما شاهدا
حال يطرأ على الذات الموصوفة بخصائص الصفات ، وجودا وعدما؟ وذلك يقضي إلى نفي
العلل شاهدا ، ولا محيص عن ذلك.
وقولهم يستقل الواجب بوجوبه ، يبطل
عليهم بأشياء :
منها ، أن كون العالم عالما شاهدا إذا ثبت فقد التحق بالواجبات
، من حيث لا ينتفي ما وقع حتى يصير كأنه لم يقع ، فيجب أن لا يكون الحال الواقع
معللا.
والدليل
على ذلك أصلان من مذاهب المعتزلة : أحدهما
، أنهم قالوا : الحادث
غير مقدور في حال حدوثه ، وإنما تتعلق القدرة به قبل الحدوث ؛ فكما استقل الحادث
بالوقوع عن تعلق القدرة ، فليستقل الحال عند الوقوع عن إيجاب العلة.
والأصل
الثاني ، أنهم أثبتوا
صفات سموها تابعة للحدوث ، وزعموا أنها لا تقع بالقدرة لوجوبها ، وعدّوا من ذلك
تحيز الجوهر ، وقيام العرض بالمحل.
ومنها ، كون العالم عالما المعلل بالعلم ؛ فإذا ألحقوا الحال
الذي فيه نزاعنا بالصفات الواجبة التابعة للحدوث ، وأخرجوه عن كونه مقدورا ولم
يخرجوه عن كونه معلولا ، فدل مجموع ذلك على أن الوجوب لا ينافي التعليل.
ومما يبطل ما
قالوه ، أنهم طردوا الشرط شاهدا وغائبا ، وحكموا بأن كون العالم عالما مشروط بكونه
حيّا ، ثم قضوا بذلك في كون الباري تعالى عالما قادرا ؛ فإذا لم يفصلوا بين الواجب
والجائز في حكم الشرط ، لم يسغ لهم الفصل في حكم العلة. وهذا القدر كاف فيما
نبغيه.