الإخبار عن النهي عنه تناقض ، فلا يتصف كل واحد من الخبرين بالخروج عن كونه صدقا حقا.
وإنما تخيل هؤلاء ما قالوه ، من حيث اعتقدوا الوجوب صفة للواجب ، وقدروها مخبرا عنها ، ثم قدروا الخبر عن نفسها. وصعب موقع ذلك عندهم من حيث علموا أن النسخ رفع حكم ثابت ، وليس بآئل إلى تبيين ما لم يثبت. ومن أحاط بما ذكرناه ، هان عليه مدرك الانفصال عن السؤال. وإذا ثبت جواز النسخ عقلا ، فليس تمنع منه دلالة سمعية.
وقد نبغت شرذمة من اليهود وتلقنوا من ابن الراوندي (١) سؤالا واستذلوا به الطغام والعوام من أتباعهم ، وقالوا : النسخ جائز عند الإسلاميين ، ولكنهم قالوا بتأبيد شريعتهم إلى تصرم عمر الدنيا ، فإذا سئلوا الدليل على ذلك ، رجعوا إلى إخبار نبيهم إياهم بتأبيد شريعته ، ونحن نقول قد أخبرنا موسى بتأبيد شريعته ، فلتتأبد ، وهو المصدق إجماعا ، وهذا الذي ذكروه باطل من وجهين.
أحدهما ما نقلوه لو صح لكان صدقا ، ولو ثبت صدقا حقا ، لما ظهرت المعجزات على يدي عيسى ومحمد عليهماالسلام ، فلما ظهرت دلت على كذب اليهود. ومهما ظهرت معجزة في شرعنا على يد متنبي تنبأ ، تبين إذ ذاك كذبنا في تأبيد شريعتنا ، فهذا وجه ظاهر. فإن عادوا إلى القدح في معجزة عيسى ومحمد عليهماالسلام ، لم يبدوا وجها في مرامهم ، إلا انقلب عليهم مثله في معجزة موسى ، عليهالسلام.
والوجه الثاني أن نقول لو صح ما قلتموه ولقنتموه ، لكان أولى الأعصار بإظهار ذلك عصر النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومعلوم أن الجاحدين منكم لنبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم لم يألوا جهدا في رد النبوءة ، وغيروا نعت محمد صلىاللهعليهوسلم في التوراة ، فلو كان فيها نص لا يقبل التأويل ، في تأبيد شريعة موسى عليهالسلام ، لأظهر وعد من أقوى العصم. فلما لم يظهروه في زمن عيسى وعصر محمد عليهماالسلام ، إذ لو أظهروه لتوفرت دواعيهم على نقلهم ، فاستبان بذلك ، أن ذلك مما اخترعه نابغتهم ، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره.
فهذا غرضنا من الكلام في النسخ ، وقد حان أن نتكلم في معجزة الرسول ، بعد ما ثبت جواز النسخ بقضيات العقول.
فصل
الأولى بنا تصدير هذا الفصل بما يتعلق بالقرآن وتحقيق كونه معجزا ، ومقاصدنا نبينها في معرض أجوبة عن أسئلة.
__________________
(١) أحد مشاهير الزندقة كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام ويقال أنه حرّف التوراة كما عادى ابنه القرآن بالقرآن وألحد فيه وصنف كتابا في الرد على القرآن سماه الدافع توفي عام ٢٩٨ ه. انظر تاريخ ابن كثير ج ١١.