السماء قد تخلّت عن الأرض ، وأسلمتها إلى الظلمة ، والوحشة بعد تألّق الضوء في ضحى النهار .
فإذا كان هذا حال الفيض المحسوس ، الذي به حياة البشر ، فهكذا حال الفيض المعنوي ، فينزل الوحي ويغرق المجتمع في بهاء نوره ، ثم يسكن ، فلا عجب في أن يجيء ـ بعد أُنس الوحي ، وتَجَلّي نوره على النبي الأكرم ـ فترة سكون يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي ، يوافي بعد الضحى المتألّق .
فإِذن ، القَسَم بالضحى ، وبالليل إذا سجى ، بيان لصورة حسيّة ، وواقع مشهود ، يمهّد لموقف مماثل لكن غير حسيّ ولا مشهود ، وهو فتور الوحي بعد إشراقه وتجلّيه .
فعند ذلك ، يتجلّى تخصيصهما بالقسم دون غيرهما ممّا ورد في القرآن من الأُمور المقسم بها . كما يتّضح أنّ نزول الوحي تدريجاً ، ليس دليلاً على أنّه سبحانه ترك نَبِيَّه أو قَلاه . وذلك لأنّ فتور الوحي ، كنزول الليل بعد الضحى ، فكما هو ليس دليلاً على تخلّي السماء عن الأرض ، وتسليمها إلى الظلمة ، فهكذا نزول الوحي نجوماً ، ليس دليلاً على أنّه سبحانه تخلّى عن رسوله ، وتركه بين أعدائه أو قلاه .
وبذلك يظهر إتّقان جواب القسم أعني قوله سبحانه :
( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .
ومن لطائف ما ورد في الجواب هو أنّه حذف المفعول من قوله : ( وَمَا قَلَىٰ ) ، ولم يقل : « قَلَاكَ » . وليس ذلك رعاية للفاصلة ، لأنّه عَدَلَ عن رعايتها في آخر سورة الضحى ، حيث قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) إذ ليس في السورة ، حرف الثاء على الإطلاق ، وكان بوسعه أن يقول مكان حَدِّث ، فَخَبِّر ، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة . فهذا دليل على أنّ الحذف لوجه آخر ، كما أنّ العناية بذكر بلفظة « حدّث » ، مكان « خَبّر » ، لنكتة موجودة في الأولى دون الثانية .