في الفصل الرابع ، وإنما ينكر أن يكون القضاء والقدر مبررين لطغيان الطغاة وجرائم الطغمة الأثيمة من الحكّام. فبالنتيجة كان معبد وأستاذه الحسن من دعاة القول بالاختيار لا من دعاة منكري القضاء والقدر. ولما كان الأمويون ، يرون أنّ القول بالقضاء والقدر يساوق الجبر وسلب الاختيار ، اتهموا القائلين به بنفي القضاء والقدر مع أنّ بين القول بالاختيار ونفي القدر بونا بعيدا.
ويشهد على ذلك أيضا أنّ غيلان يعرب عن عقيدته في محاجته مع عمر بن عبد العزيز بالاستشهاد بقوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، فالرجل كان يتبنى الاختيار ويكافح الجبر ، لا أنّه كان ينكر ما ثبت في الكتاب والسنّة الصحيحة. كما أنّه في محاجته مع ميمون بن مروان أعرب عن عقيدته بقوله : «أشاء الله أن يعصى؟» قائلا بأنّه ليس هناك مشيئة سالبة للاختيار جاعلة الإنسان مجرد متفرّج في مسرح الحياة.
وأظن أنّ اتهام الرجلين ومن جاء بعدهما بالقدرية تارة (نفي القضاء والقدر بالمعنى الصحيح) أو بالتفويض وأن الإنسان في غنى عن الله تعالى في أفعاله ، أخرى ، لم يكن في محله. فهؤلاء كانوا يكافحون فكرة الجبر لا نصوص الكتاب والسّنّة. وأما فكرة التفويض فإنما تمحضت ونضجت إثر إصرار الأمويين على الجبر ، واتخذته المعتزلة مذهبا في النصف الثاني من القرن الثاني ، وإلّا فالمتقدمون عليهم حتى مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء مبرّءون عن فكرة التفويض.
فالقول بالتفويض الذي هو صورة مشوهة للاختيار ، إنّما تولد من إصرار الأمويين والمتأثرين بهم من أهل الحديث على القول بالجبر من جهة ، وإصرار هؤلاء الأقدمين على اختيار الإنسان وحريته في مجال الحياة. وإلا فإنّه لم يكن من التفويض أثر في كلمات الأقدمين.
ومن الأسف أنّ القول بالجبر قد بقي بين المسلمين بصورة خاصة حتى في المنهج الذي ابتدعه إمام الأشاعرة ، إلى العصور الحاضرة. والمنكر إنما ينكر بلسانه ولكنه موجود في المنهج الذي ينتسب إليه.