أو من جهة الظّاهر من أنواع فضل الله والكلّ مناسب هاهنا ، وقد قيل بكلّ منها ببعضها صريحا وببعضها تلويحا ، فقيل : معناه قضينا لك ، وقيل : يسّرنا لك ، وقيل : أعلمناك ، وقيل : أرشدناك ، وقيل : فتحنا البلاد لك ، وقيل : اظفرناك على الأعداء بالحجّة والمعجزة حتّى لم يبق معاند للإسلام ، وقيل : المراد به فتح مكّة له (ص) ، وقيل : المراد به صلح
شرح في صلح الحديبيّة
الحديبيّة ، وقيل : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبيّة ، وذلك انّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وقيل : بويع محمّد (ص) بالحديبيّة بيعة الرّضوان واطعم نخيل خيبر ، وظهرت الرّوم على فارس ، وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وهم الرّوم على المجوس إذ صدق به قوله تعالى (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) ، وعن الصّادق (ع) قال : سبب نزول هذه السّورة وهذا الفتح العظيم انّ الله عزوجل امر رسوله في النّوم ان يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا ، فلمّا نزل ذا الحليفة (١) أحرموا بالعمرة وساقوا البدن وساق رسول الله (ص) ستّة وستّين بدنة وأشعرها عند إحرامه وأحرموا من ذي الحليفة ملبّين بالعمرة وقد ساق من ساق منهم الهدى معرّات مجلّلات ، فلمّا بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مأتى فارس كمينا ليستقبل رسول الله (ص) وكان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطّريق حضرت صلوة الظّهر فأذنّ بلال فصلّى رسول الله (ص) بالنّاس فقال خالد بن الوليد : لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصّلوة لأصبناهم فانّهم لا يقطعون صلوتهم ولكن تجيء الآن لهم صلوة اخرى احبّ إليهم من ضياء أبصارهم فاذا دخلوا في الصّلوة أغرنا إليهم ، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) بصلوة الخوف فلمّا كان في اليوم الثّانى نزل رسول الله (ص) الحديبيّة وهي على طرف الحرم وكان رسول الله (ص) يستنفر الاعراب في طريقه معه فلم يتّبعه أحد ويقولون : أيطمع محمّد (ص) وأصحابه ان يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم ، انّه لا يرجع محمّد (ص) وأصحابه الى المدينة أبدا ، فلمّا نزل رسول الله (ص) الحديبيّة خرجت قريش يحلفون باللّات والعزّى لا يدعون رسول الله (ص) يدخل مكّة وفيهم عين تطرف فبعث إليهم رسول الله (ص) انّى لم آت لحرب وانّما جئت لأقضي نسكي وانحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحمانها ، فبعثوا عروة بن مسعود الثّقفىّ وكان عاقلا لبيبا وهو الّذى انزل الله فيه : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فلمّا أقبل الى رسول الله (ص) عظّم ذلك وقال : يا محمّد (ص) تركت قومك وقد ضرب الابنية واخرجوا العوذ (٢) المطافيل (٣) يحلفون باللّات والعزّى لا يدعوك تدخل مكّة حرمهم وفيهم عين تطرف ، أفتريد ان تبير أهلك وقومك يا محمّد (ص)؟ ـ فقال رسول الله (ص) : ما جئت لحرب وانّما جئت لأقضي مناسكي وانحر بدني وأخلّي بينكم وبين لحمانها ، فقال عروة : والله ما رأيت كاليوم أحدا صدّ كما صددت ، فرجع الى قريش فأخبرهم ، فقالت قريش : والله لئن دخل محمّد (ص) مكّة وتسامعت به العرب لتذلّلنّ ولتجرئنّ علينا العرب فبعثوا حفص بن الأحنف وسهيل بن عمر وفلمّا نظر إليهما رسول الله (ص) قال : ويح قريش قد نهكتكم الحرب الّا خلّوا بيني وبين العرب فان أك صادقا فانّى اجّر الملك إليهم مع النّبوّة ، وان أك كاذبا كفتهم ذؤبان العرب لا يسألنّي اليوم امرء من قريش خطّة ليس لله فيها سخط الّا أجبتهم اليه فلمّا وافوا رسول الله (ص) ، قالوا يا محمّد (ص) الا ترجع عنّا عامك هذا الى ان ننظر الى ما يصير أمرك وامر العرب؟ ـ فانّ العرب قد تسامعت بمسيرك فاذا دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا ونخلّى لك البيت في العام القابل في هذا الشّهر ثلاثة ايّام حتّى تقضى نسكك وتنصرف عنّا ، فأجابهم رسول الله (ص) الى ذلك ، وقالوا له تردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا ، ونردّ إليك كلّ من جاءنا من رجالك ، فقال رسول الله (ص) : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ولكن على انّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في اظهارهم الإسلام
__________________
(١) ذو الحليفة هو بالتّصغير موضع على ستة أميال من المدينة وميقات المدينة.
(٢) العوذ جمع العائذه الحديثات النتاج من كلّ أنثى.
(٣) المطافل والمطافيل جمع المطفل ذات الطّفل من الانس والوحش.