الأمر الأوّل : أنّا إذا أخذنا قدحا ووضعناه على جمد وجعلنا رأسه خارجا مسدودا فانّه يبرد وتحدث على أطراف الاناء قطرات وتجتمع في الإناء قطرات كثيرة ، فهذه القطرات هواء تكوّنت ماء ، لأنّ الندى الذي يوجد هناك : إمّا أن يتكون من الهواء ، وهو المطلوب. أو لا يتكون منه ، بل إمّا أن يجتمع من الهواء المطيف به على ما ذهب إليه منكروا الكون والفساد بين الهواء والماء كالشيخ أبي البركات (١) وغيره. أو يترشح ممّا في داخله.
والأوّل باطل ، لأنّ الهواء المطيف بالإناء لا يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة من الماء خصوصا في الصيف ، فانّ الأجزاء المائية إن كانت باقية فقد تتصاعد جدّا لفرط حرارة هوائه (٢) ، ولا تبقى مجاورة للإناء. وعلى تقدير بقائها هناك يلزم أحد ثلاثة أشياء : إمّا نفاذ تلك الأجزاء إذا تواتر حدوث الندى بعد تنحيته من الإناء مرّة بعد أخرى فينقطع حصوله على الإناء مع كون الإناء بحالة الأولى. (٣) وإمّا تناقصها فيكون حصوله كلّ مرّة أنقص ممّا كان قبلها. وإمّا تراخي أزمنة حصولها فيكون بين كلّ حصولين زمان أطول ممّا بين حصولين قبلهما. وذلك على تقدير أن تجتمع الأجزاء التي تكون في هواء أبعد من الإناء إليه مع أنّ ذلك بعيد جدّا ، لأنّ تلك الأجزاء الصغيرة مع جذب حرارة الهواء إيّاها لا تتمكن من خرق حجم كبير من الهواء. ولكن الوجود يكذب ذلك كلّه ، لأنّا نرى حدوث
__________________
(١) قال في المعتبر بعد ذكر المثال المذكور آنفا ، ومثال آخر ، وبعد إبطال الترشح : «فهو في الحالين لاستحالة الهواء المحيط والمحوى ماء.» ٢ : ١٦٦ (الفصل الثاني في ما يتغير ويستحيل ويتكون ويفسد). فإنّه زعم أنّ في الهواء المطيف بالإناء أجزاء لطيفة مائية لكنّها لصغرها وجذب حرارة الهواء إيّاها لم تتمكن عن صرف الهواء والنزول إلى الإناء ، فلما برد الإناء الهواء الذي يليه زالت تلك السخونة من الأجزاء المائية لصغره فثقلت وكثفت فنزلت واجتمعت على الإناء. راجع شرح قطب الدين الرازي على شرح الإشارات ٢ : ٢٦٠.
(٢) في شرح الإشارات : «هوائية».
(٣) في شرح الإشارات : «بحاله الأوّل».