أي إن العلم الذي معى ، هو علم فوق إدراك العقول وتصوراتها ،. وإذن فلن يكون مبعث اطمئنان لك ، إذ يرفضه عقلك ، ويتأبّى عليه منطقك .. والعلم الذي يفيد صاحبه ، هو العلم الذي يحيط به عقله ، وتتسع له مداركه ، فينزل عنده منزل القبول والاطمئنان .. فإذا لم يكن كذلك أضرّ ولم ينفع ، وأثار فى النفس قلقا ، واضطرابا ، وعقد فى سماء الفكر ، سحبا من الشكوك والريب.
وإذ يتلقّى موسى هذا الرد ، يجد أن الفرصة تكاد تفلت منه ، ويرى سعيه الذي سعاه قد جاء بغير طائل .. ولكنه لا بد أن يمضى فى التجربة إلى غايتها ، خاصة وقد أثار هذا القول غريزة حبّ الاستطلاع عنده ، وأغراه بأن يخوض عباب هذا البحر ، ولو خاطر بنفسه .. فقال فى أدب نبوىّ رفيع :
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) .. هكذا ينبغى أن يكون أدب الطلب والتحصيل ..
وإزاء هذه الرغبة الملحّة من هذا التلميذ الحريص على طلب العلم والمعرفة ، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده ، ولكنه يشترط لنفسه ، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه ، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم .. فيقول :
* (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) .. أي إن اتبعتنى فعليك أن تلزم الصمت ، ولا تنطق بكلمة ، ولا تنبس ببنت شفة ، حتى أكون أنا الذي يدعوك إلى الكلام فيما أريدك عليه ..
وهنا تبدأ الرحلة ، فى رحاب هذا العلم الربّاني ..
* (فَانْطَلَقا .. حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) .. وهكذا تبدأ الجولة الأولى بهذا الحدث ، الذي يدور له رأس موسى ، ويأخذ عليه العجب كلّ