وقال غيره : العرب تشبّه النّساء بالنّعاج ، وتورّى عنها بالشّاء والبقر. قال ابن قتيبة : ورّى عن ذكر النساء بذكر النّعاج ، كما قال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلّت له |
|
حرمت عليّ وليتها لم تحرم |
يعرّض بجارية ، يقول : أيّ صيد أنت لمن حلّ له أن يصيدك! فأمّا أنا ، فإن حرمة الجوار قد حرّمتك عليّ. وإنّما ذكر الملك هذا العدد لأنه عدد نساء داود.
قوله تعالى : (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) فتح الياء حفص عن عاصم ، وأسكنها الباقون. (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) قال ابن قتيبة : أي : ضمّها إليّ واجعلني كافلها. وقال الزّجّاج : انزل أنت عنها واجعلني أنا أكفلها. قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي : غلبني في القول. وقرأ عمر بن الخطّاب وأبو رزين العقيلي والضّحّاك وابن يعمر وابن أبي عبلة : «وعازّني» بألف ، أي : غالبني. قال ابن مسعود وابن عباس في قوله : «وعزّني في الخطاب» : ما زاد على أن قال : انزل لي عنها. وروى العوفيّ عن ابن عباس قال : إن دعوت ودعا كان أكثر ، وإن بطشت وبطش كان أشدّ مني. فإن قيل : كيف قال الملكان هذا ، وليس شيء منه موجودا عندهما؟ فالجواب : أنّ العلماء قالوا : إنّما هذا على سبيل المثل والتّشبيه بقصّة داود ، وتقدير كلامهما : ما تقول إن جاءك خصمان فقالا كذا وكذا؟ وكان داود لا يرى أنّ عليه تبعة فيما فعل ، فنبّهه الله بالملكين. وقال ابن قتيبة : هذا مثل ضربه الله له ونبّهه على خطيئته. وقد ذكرنا آنفا أنّ المعنى : نحن كخصمين. قوله تعالى : (قالَ) يعني داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) قال الفرّاء : أي : بسؤاله نعجتك ، فإذا ألقيت الهاء من السؤال ، أضفت الفعل إلى النّعجة ، ومثله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) (١) ، أي : من دعائه بالخير ، فلمّا ألقى الهاء ، أضاف الفعل إلى الخير ، وألقى من الخير الباء ، وأنشدوا :
فلست مسلّما ما دمت حيّا |
|
على زيد بتسليم الأمير |
أي : بتسليم على الأمير.
قوله تعالى : (إِلى نِعاجِهِ) أي : ليضمّها إلى نعاجه. قال ابن قتيبة : المعنى : بسؤال نعجتك مضمومة إلى نعاجه ، فاختصر. قال : ويقال «إلى» بمعنى «مع». فإن قيل : كيف حكم داود قبل أن يسمع كلام الآخر؟ فالجواب : أنّ الخصم الآخر اعترف ، فحكم عليه باعترافه ، وحذف ذكر الاعتراف اكتفاء بفهم السّامع ، والعرب تقول : أمرتك بالتّجارة فكسبت الأموال ، أي : فاتّجرت فكسبت ، ويدلّ عليه قول السّدّيّ : إنّ داود قال للخصم الآخر : ما تقول؟ قال : نعم ، أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي وهو كاره ، قال : إذا لا ندعك ، وإن رمت هذا ضربنا منك هذا ـ ويشير إلى أنفه وجبهته ـ فقال : أنت يا داود أحقّ أن يضرب هذا منك حيث لك تسع وتسعون امرأة ، ولم يكن لأوريا إلّا واحدة ، فنظر داود فلم ير أحدا ، فعرف ما وقع فيه (٢). قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) يعني الشّركاء ، واحدهم : خليط ، وهو المخالط في المال ، وإنما قال هذا ، لأنه ظنّهما شريكين ، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : فإنهم لا يظلمون أحدا ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) «ما» زائدة ، والمعنى : وقليل هم ، وقيل : المعنى : هم قليل ، يعني الصّالحين الذين لا يظلمون.
__________________
(١) فصلت : ٤٩.
(٢) تقدم أن هذه الآثار إسرائيلية.