فإن قيل : هل يؤاخذ الإنسان إن أراد الظّلم بمكّة ، ولم يفعله؟ فالجواب من وجهين : أحدهما : أنه إذا همّ بذلك في الحرم خاصّة ، عوقب ، هذا مذهب ابن مسعود ، فإنه قال : لو أنّ رجلا همّ بخطيئة ، لم تكتب عليه ما لم يعملها ، ولو أنّ رجلا همّ بقتل مؤمن عند البيت ، وهو ب «عدن أبين» ، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم. وقال الضّحّاك : إنّ الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكّة وهو بأرض أخرى ، فتكتب عليه ولم يعملها. وقال مّجاهد : تضاعف السيئات بمكّة ، كما تضاعف الحسنات. وسئل الإمام أحمد : هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ فقال : لا ، إلّا بمكّة لتعظيم البلد. وأحمد على هذا يرى فضيلة المجاورة بها ؛ وقد جاور جابر بن عبد الله ، وكان ابن عمر يقيم بها (١). والثاني : أنّ معنى : «ومن يرد» : من يعمل. قال أبو سليمان الدّمشقي : هذا قول سائر من حفظنا عنه.
(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))
قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا) قال ابن عباس : جعلنا. وقال مقاتل : دللناه عليه ، وقال ثعلب : وإنما أدخل اللام ، على أنّ «بوّأنا» في معنى : جعلنا ، فيكون بمعنى «ردف لكم» (٢) أي : ردفكم. وقد شرحنا كيفية بناء البيت في سورة البقرة (٣). قوله تعالى : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) المعنى : وأوحينا إليه ذلك (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) حرّك هذه الياء ، نافع وحفص عن عاصم. وقد شرحنا الآية في البقرة (٤). وفي المراد ب «القائمين» قولان : أحدهما : القائمون في الصّلاة ، قاله عطاء ، والجمهور. والثاني : المقيمون بمكّة ، حكي عن قتادة.
قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) قال المفسّرون : لمّا فرغ إبراهيم من بناء البيت ، أمره الله تعالى أن يؤذّن في الناس بالحجّ ، فقال إبراهيم : يا ربّ ، وما يبلغ صوتي؟ قال : أذن ، وعليّ البلاغ ، فعلا على جبل أبي قبيس ، وقال : يا أيّها الناس : إنّ ربّكم قد بنى بيتا ، فحجّوه ، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممّن سبق في علم الله أن يحجّ ، فأجابوه : لبّيك اللهمّ لبّيك. والأذان بمعنى النّداء والإعلام ، والمأمور بهذا الأذان ، إبراهيم في قول الجمهور ، إلّا ما روي عن الحسن أنه قال : المأمور به محمّد صلىاللهعليهوسلم والناس ها هنا : اسم يعمّ جميع بني آدم عند الجمهور ، إلّا ما روى العوفيّ عن ابن عباس أنه
__________________
(١) قال الإمام الموفق رحمهالله في «المغني» ٥ / ٤٦٤ : قال أحمد : كيف لنا بالجوار بمكة! قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنك لأحب البقاع إلى الله عزوجل ، ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت». وإنما كره الجوار بمكة لمن هاجر منها ، وجابر بن عبد الله جاور بمكة ، وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من يخرج ويهاجر. أي لا بأس به. وكان ابن عمر يقيم بها. قال : والمقام بالمدينة أحب إلي
من المقام بمكة لمن قوي عليه ، لأنها مهاجر المسلمين. وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا يصبر أحد على لأوائها وشدّتها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة».
(٢) سورة النمل : ٧٢.
(٣) سورة البقرة : ١٢٩.
(٤) سورة البقرة : ١٢٥.