فنزلت هذه الآية والتي بعدها ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (١) ، وهو قول مقاتل.
(٢٣٨) والثالث : أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمّد بن إسحاق عن أشياخ له ، أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد ، فلمّا نزلوا بئر معونة ، خرّع حرام بن ملحان إلى عامر بن الطّفيل بكتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلم ينظر فيه عامر ، وخرج رجل من كسر (٢) البيت برمح ، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشّقّ الآخر ، فقال : الله أكبر ، فزت وربّ الكعبة ، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم ، قال أنس بن مالك : فأنزل الله تعالى فيهم : «بلّغوا قومنا عنّا أنّا قد لقينا ربّنا ، فرضي عنّا ورضينا عنه» ثم رفعت ، فنزلت هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً).
فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت ، واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الشهداء بعد استشهادهم سألوا الله أن يخبر إخوانهم بمصيرهم ، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : أنّ رجلا قال : يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا ، فنزلت ، قاله مقاتل. والثالث : أنّ أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور ، تحسّروا ، وقالوا نحن في النّعمة والسّرور ، وآباؤنا ، وأبناؤنا ، وإخواننا ، في القبور ، فنزلت هذه الآية ، ذكره عليّ بن أحمد النّيسابوريّ.
فأما التّفسير ، فمعنى الآية : لا تحسبنّهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل الله ، وقد بيّنا هذا المعنى في (البقرة) وذكرنا أن معنى حياتهم : أن أرواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنّة ، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة.
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠))
قوله تعالى : (فَرِحِينَ) قال ابن قتيبة : الفرح : المسرّة ، فأمّا الذي آتاهم الله ، فما نالوا من كرامة الله ورزقه ، والاستبشار : السّرور بالبشارة ، (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) إخوانهم من المسلمين. وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الله تعالى لمّا أخبر بكرامة الشهداء ، أخبر الشهداء بأنّي قد أنزلت على نبيّكم ، وأخبرته بأمركم فاستبشروا ، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : يستبشرون بإخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة ، يقولون : إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل ، قاله قتادة. والثالث : أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه وأهله ، وفيه يقدم عليه فلان يوم كذا وكذا ، فيستبشر بقدومه ، كما يستبشر أهل الغائب به ، هذا قول السّدّيّ.
____________________________________
(٢٣٨) ذكره ابن هشام في «السيرة» ٣ / ١٤٧ في أثناء خبر مطول. وأخرج بعضه الطبري ٨٢٢٤ من حديث أنس.
وانظر «الدر المنثور» ٢ / ١٦٩ و «دلائل النبوة» للبيهقي ٣ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ وأصله في «صحيح البخاري» ٢٨٠١ من حديث أنس.
__________________
(١) لم أقف على إسناده إلى سعيد ، ولا يصح ، والصواب أنها نزلت في شهداء أحد.
(٢) في «اللسان» : كسر البيت : جانبه.