(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ). قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، كتموا اسم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وغيّروه في كتابهم (١). والثّمن القليل : ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا. (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، قال الزّجّاج : معناه : إنّ الّذين يأكلونه يعذّبون به ، فكأنّهم يأكلون النّار ، (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) هذا دليل على أنّ الله لا يكلّم الكفّار ولا يحاسبهم. وفي قوله تعالى : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) ، ثلاثة أقوال : أحدها : لا يزكي أعمالهم ، قاله مقاتل. والثاني : لا يثني عليهم ، قاله الزجّاج. والثالث : لا يطهّرهم من دنس كفرهم وذنوبهم ، قاله ابن جرير.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥))
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) ، أي : اختاروها على الهدى. وفي قوله تعالى : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ، أربعة أقوال : أحدها : أنّ معناه : فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النّار! قاله عكرمة ، والرّبيع. والثاني : ما أجرأهم على النّار ؛ قاله الحسن ، ومجاهد. وذكر الكسائيّ أنّ أعرابيا حلف له رجل كاذبا ، فقال الأعرابيّ : ما أصبرك على الله ، يريد : ما أجرأك. والثالث : ما أبقاهم في النّار ، كما تقول : ما أصبر فلانا على الحبس ، أي : ما أبقاه فيه ، ذكره الزجّاج. والرابع : أنّ المعنى : فأيّ شيء صبّرهم على النّار؟! قاله ابن الأنباريّ. وفي «ما» قولان : أحدهما : أنها للاستفهام ، تقديرها : ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء ، والسّدّيّ ، وابن زيد ، وأبو بكر بن عيّاش. والثاني : أنها للتعجّب ،
__________________
يأكل قدر ما يقيمه ، لأن الآية دلّت على تحريم الميتة ، واستثنى ما اضطر إليه ، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل ، كحالة الابتداء ، ولأنه بعد سدّ الرمق غير مضطرّ ، فلم يحل له الأكل ، للآية ، يحققه أنه بعد سدّ رمقه كهو قبل أن يضطر ، وثمّ لم يبح له الأكل كذا هاهنا. والثانية : يباح له الشبع. اختارها أبو بكر ، لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة ، فنفقت عنده ناقة ، فقالت له امرأته : اسلخها ، حتى نقدّد شحمها ولحمها ، ونأكله. فقال حتى أسأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فسأله فقال : «هل عندك غنى يغنيك؟». قال : لا. قال : «فكلوها» ولم يفرّق. رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه ، جاز الشبع منه ، كالمباح. ويحتمل أن يفرّق بين إذا ما كانت الضرورة مستمرة ، وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة ، كحال الأعرابي الذي سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاز له الشّبع ، لأنه إذا اقتصر على سدّ الرمق ، عادت الضرورة إليه عن قرب ، ولا يتمكن من البعد عن الميتة ، مخافة الضرورة المستقبلية ، ويفضي إلى ضعف بدنه ، وربما أدى ذلك إلى تلفه. بخلاف التي ليست مستمرة ، فإنه يرجو الغنى عنها بما يحلّ له. والله أعلم. إذا ثبت هذا ، فإن الضرورة المبيحة ، هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل. قال أحمد : إذا كان يخشى على نفسه ، سواء كان من جوع ، أو يخاف إن ترك الأكل عجز المشي ، وانقطع عن الرفقة فيهلك ، أو يعجز عن الركوب فيهلك ، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور. وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر؟ فيه وجهان : أحدهما يجب وهو قول مسروق ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي. قال الأثرم : سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ، ولم يأكل؟. فذكر قول مسروق : فمن اضطر فلم يأكل ولم يشرب ، فمات ، دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد. والثاني : لا يلزمه.
(١) تقدم عند الآية ١٥٩.