الفصل الثّانى
فى الإبانة عن حدّ البلاغة
فنقول :
البلاغة كلّ ما تبلّغ به المعنى قلب السامع فتمكّنه فى نفسه كتمكّنه فى نفسك مع
صورة مقبولة ومعرض حسن.
وإنما جعلنا
حسن المعرض وقبول الصورة شرطا فى البلاغة ؛ لأنّ الكلام إذا كانت عبارته رثّة
ومعرضه خلقا لم يسمّ بليغا ، وإن كان مفهوم المعنى ، مكشوف المغزى.
ألا ترى إلى
معنى الكاتب الذى كتب إلى بعض معامليه : قد تأخّر الأمر فيما وعدت حمله ضحوة
النهار ، والقوم غير مقيمين ، وليس لهم صبرى ، وهم فى الخروج آنفا ؛ فإن رأيت فى
إزاحة العلّة مع الجهبذ فعلت إن شاء الله. فمعناه مفهوم ومغزاه معلوم ، وليس
كلامه ببليغ.
فهذا يدلّ على
أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى مفهوما واللفظ مقبولا على ما قدمناه.
ومن قال : إن
البلاغة إنما هى إفهام المعنى فقط ، فقد جعل الفصاحة ، واللّكنة ، والخطأ ،
والصواب ، والإغلاق ، والإبانة سواء.
وأيضا فلو كان
الكلام الواضح السهل ، والقريب السّلس الحلو بليغا ، وما خالفه من الكلام المستبهم
المستغلق والمتكلّف المتعقد أيضا بليغا لكان كلّ ذلك محمودا وممدوحا مقبولا ، لأنّ
البلاغة اسم يمدح به الكلام.
فلمّا رأينا
أحدهما مستحسنا ، والآخر مستهجنا علمنا أنّ الذى يستحسن البليغ ، والذى يستهجن ليس
ببليغ.
__________________