الأرضي ثم في العالم الأعلى السماوي ، فقد تبين أن وجود الإنسان لم يحدث من الله إلا بعد استيفاء الطبيعة جميع درجات الأكوان ، وطيها منازل النبات والحيوان ، فيجتمع في ذاته جميع القوى الأرضية والآثار النباتية والحيوانية ، وهذا أول درجات الإنسانية التي اشترك فيها جميع أفراد الناس ، ثم في قوته الارتقاء إلى عالم السماء ومجاورة الملكوت الأعلى بتحصيل العلم والعمل ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، ثم له أن يطوي بساط الكونين ويرتفع من العالمين بأن يستكمل ذاته بالمعرفة الكاملة والعبودية التامة ، ويفوز بلقاء الله بعد فنائه عن ذاته ، وحينئذ يصير رئيسا مطاعا في العالم العلوي ، مسجودا للملائكة السماوية ، يسري حكمه في الملك والملكوت ، ويسمع دعاؤه في حظيرة قدس الجبروت ، قال تعالي في خلقة بدن الإنسان : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، فالطين مادته الأولى ، لأنه الجزء الغالب من عناصره ، كالنار في الجن ، والسلالة مادته الثانية مرتبتها مرتبة المعدنيات لكون صورتها حافظة لتركيبها ، ولهذا عقب بقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) ، وقوله (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ، إشارة إلى المراتب السابقة على الإنسانية المشتركة جميع الحيوانات مع الإنسان ، وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، إشارة إلى نحو آخر من الوجود ، مخالف الذات والحقيقة لما سبق من الأطوار السابقة على الإنسانية ، وهي كلها صور كونية قائمة بالجسم ، وهذا نور فائض من الله قائم بذاته ، بل بذات الله تعالى ، قيام الضوء الوارد على وجه الأرض بذات الشمس لا بذاته ولا بذات الأرض بل الأرض مظهر قابل لظهوره ، وكذلك البدن العنصري باستعداده مظهر قابل لظهور هذا النور الرباني الذي من الله مشرقه وإلى البدن مغربه ومهبطه ، وسيرد إلى الله يوم طلعت الشمس من مغربها ، فتطلع هذه النفس عند خراب القالب إلى خالقها ومنشئها ، ويرجع إلى الله إما زاهرة مشرقة ، وإما مظلمة منكسفة ، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة الإلهية ، إذ مرجع الكل ومصيره إليه ، إلا أنها ناكسة الرءوس