كذلك يضرب الله أمثال الحق والباطل
للمثل في القرآن قيمة كبري في تجسيد المفاهيم العامة السلبية منها والإيجابية ، لأنه يعطي المفهوم صورته الواقعية في حركة الحياة ، حيث يمكن للإنسان أن يعيش معناه في الواقع ، بدلا من أن يعيشه في الخيال المجرّد. وقد صوّر الله الكافر أعمى ، والمؤمن بصيرا ، ليتجسّد للإنسان إشراق الفكر في إشراقه البصر ، كما تتجسّد ظلمة الكفر في ظلمة البصر ، ولكي تمتد الصورة في المقارنة بين الكفر والإيمان ، تماما كما هي المقارنة بين الظلمة والنور. أما هذه الآية ، فإنها تقارن بين الحق والباطل في صورة أخرى.
(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) ينهمر من السحاب المثقل بالماء ، (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) فامتلأت مساحات الأودية بالماء في العمق والامتداد ، (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) وهو ما يعلو الماء من الرغوة ويسمى غثاء. ومن خصائص هذا الزبد أنه يتبخّر في الهواء ويضمحل تماما ، (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) ... وهناك زبد آخر ، يعلو المعادن من الذهب والفضة والنحاس التي تصهر في النار من أجل صنع الحلي أو الآلات الخاصة ، فيبقى المعدن في صلابته ، ويتبخّر الزبد ويضمحل تماما. وتلك هي صورة واقع الوجود المادي للأشياء ، لجهة ما يبقى منه وما يضمحلّ ، وما يثبت وما يزول. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) ، بما يمثله الحق من صلابة وثبات في عمق صدور الفكرة ، وبما يمثله الباطل من خيال يطفو على السطح ، ويتوهج لبعض الوقت ، ثم يشحب رويدا رويدا حتى يتلاشى تماما ، لأنه لا يملك أيّ أساس في العمق. وتلك هي الفكرة التي نستوحيها من المثل الواقعي (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) باطلا لا ثبات له ولا امتداد ، عند ما يتبخّر ويضمحل تدريجا ، (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء الذي يملك جوهر الخصب والريّ ، ومن المعدن الذي يملك