كيف وقد قال لهم :
(فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات ، وتأخيرها
إظهارا للإعجاز على الطريقين جميعا ، دون التسجيع الذي توهموه. فإن قال قائل :
القرآن مختلط من أول أوزان كلام العرب ، ففيه من جنس خطبهم ورسائلهم وسجعهم وموزون
كلامهم الذي هو غير مقفى. ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته وفصاحته ، قيل :
قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ، ونثر ، وكلام مقفى غير موزون ، ونظم موزون ،
ليس بمقفى ، كالخطب والسجع ، ونظم مقفى موزون له روىّ ، ومن هذه الأقسام ما هو
سجية الأغلب من الناس ، فتناوله أقرب ، وسلوكه لا يتعذر ، ومنه ما هو أصعب تناولا
، كالموزون عند بعضهم ، أو الشعر عند الآخرين ، وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن يقع
لهم بأحد أمرين : إما بتعمل ، أو بتكلف وتعلم وتصنع ، أو باتفاق من الطبع وقذف من
النفس على اللسان للحاجة إليه.
ولو كان ذلك مما
يجوز اتفاقه من الطبائع ، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم ويتعرض على ألسنتهم
، وتجيش به خواطرهم. ولا ينصرف عند الكل مع شدة الدواعي إليه. ولو كان طريقه
التعلم لتصنعوه ولتعلموه فالمهلة لهم فسيحة ، والأمد واسع.
وقد اختلفوا في
الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل : إنه اتفاق في الأصل غير مقصود إليه على ما يعرض من
أصناف النظام في تضاعيف الكلام ، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه تألفه
الأسماع وتقبله النفوس ، تتبعوه من بعد وتعلموه.
وحكى لي بعضهم عن
أبي عمر وغلام ثعلب ، عن ثعلب : أن العرب تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع
على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن : «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ويسمون ذلك
الوضع الميتر ، واشتقاقه من المتر ، وهو الجذب أو القطع ، يقال مترت الحبل ، بمعنى
قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله ، وأما ما وقع
السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.
وقد يحتمل على قول
من قال : بأن اللغة اصطلاح ، أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم. وقد يمكن أن
يقال مثله على المذهب الآخر ، وأنهم وقفوا على ما ينصرف إليه
__________________