وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا ، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذّر. والعلم حاصل.
وكذلك قد يحسن كيفية الخط ، والجيد منه من الردىء. ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد.
وقد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام ، وكيفية تصور الخطّ. ثم يتفاوتون في التفصيل ، ويختلفون في التصوير.
وألزمهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام ، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا لأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام.
وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل ، فصار القرآن معجزا لنزوله على هذا الوجه. ومن قبله لم يكن معجزا.
وهذا قول أبي هاشم ، وهو الظاهر الخطأ ، لأنه يلزم أن يكونوا قادرين على مثل القرآن ، وإن لم يتعذر عليهم فعل مثله. وإنما تعذر بإنزاله ، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك ، كان قد اتفق مع بعضهم مثله.
وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله فهو قولنا.
وأما قول كثير من المخالفين فهو على ما بيّنا ، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله. وكان ذلك متعذرا قبل نزوله وبعده. فأما الكلام في أن التأليف ، هل له نهاية؟ فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه. فمنهم من قال : ليس لذلك نهاية ، كالعدد ، فلا يمكن أن يقال : إنه لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل.
ومنهم من قال : إن ما جرت به العادة فله نهاية ، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن نعلم نهاية الرتبة فيه. وقد بيّنا أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا حد في العادة ، ولا سبيل إلى تجاوزه ، ولا يقدر. فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.
فصل : إن قيل هل من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه؟ قيل : لا بد من ذلك. لأنا لو نعلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم هو الذي أتى بالقرآن وظهر ذلك من جهته ، لم يمكن أن يستدل به على نبوته. وعلى هذا ، لو تلقى رجل منه سورة ، فأتى بها بلدا وادعى ظهورها عليه ، وأنها معجزة له ، لم تقم الحجة عليهم ، حتى يبحثوا أو يتبينوا أنها ظهرت عليه. وقد تحققنا أن القرآن أتى به النبي صلىاللهعليهوسلم وظهر من جهته ، وجعله علما على نبوته ، وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.