ولو لم يكن من عظم
شأنه إلا أنه طبّق الأرض أنواره ، وجلل الآفاق ضياؤه ، ونفذ في العالم حكمه ، وقبل
في الدنيا رسمه ، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرّواق. ممدود الأطناب ،
مبسوط الباع ، مرفوع العماد ، ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته ، أو يعبده حق
عبادته ، أو يدين بعظمته ، أو يعلم علوّ جلالته ، أو يتفكّر في حكمته ، فكان كما
وصفه الله تعالى جل ذكره من أنه نور فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم ، وبديع هذا التأليف ،
وعظيم هذا الرصف ، كل كلمة من هذه الآية تامة ، وكل لفظ بديع واقع قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا) يدل على صدوره من الربوبية ، ويبين عن وروده عن الإلهية ،
وهذه الكلمة بمنفردها ، وأخواتها ، كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميز عن
جميعه ، وكان واسطة عقده ، وفاتحة عقده ، وغرة شهره ، وعين دهره ، وكذلك قوله :
(وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) فجعله روحا لأنه يحيي الخلق ، فله فضل الأرواح في الأجساد.
وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق. ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته.
ووقف وقوف الاسترشاد به على إرادته ، وبيّن أنه لم يكن ليهتدي إليه لو لا توفيقه.
ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لو لا تعليمه. وأنه لم يكن ليهتدي ، فكيف
كان يهدى لولاه؟ فقد صار يهدي ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي.
فقال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى
اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث : فالكلمتان الأولتان
مؤتلفتان ، وقوله : (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) كلمة منفصلة مباينة للأولى قد صيرهما شريف النظم أشد
ائتلافا من الكلام المؤلف ، وألطف انتظاما من الحديث الملائم.
وبهذا يبين فضل
الكلام ، وتظهر فصاحته وبلاغته. الأمر أظهر ، والحمد لله ، والحال أبين من أن
يحتاج إلى كشف.
تأمل قوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها ، واحتج بها
على ظهور
__________________