الأجواء الروحيّة التي تبتعد بها عن حدود المادة ، فتقنت في ما يمثله القنوت من معنى الطاعة عن خضوع ، وتركع وتسجد لله ، في ما يمثله هذا الانحناء من الشعور بالانسحاق الذاتي أمام عظمة الله ... فذلك هو الذي يحميها من كل مشاعر الضعف والقهر والاضطهاد مع الآخرين ، وهو الذي يساعدها على الانتظار في ظل الغموض الشاحب.
وتتوقف الآيات هنا ، لتلتفت إلى الرسول محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فتوحي إليه بأن ما قصّه الله عليه من قصّة مريم هو من أنباء الغيب التي أوحى بها الله ، فهو لم يعشها ولم يعرفها عن حسّ ومشاهدة ، ولم يقرأها ، لأنّه لم يمارس القراءة والكتابة ... وربما لم تكن بعض تفاصيلها معروفة حتى عند أهل الكتاب ، لأنها غير مذكورة بدقائقها في الإنجيل. وقد يكون في قوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) إشارة إلى أن المراد بالغيب عدم الحضور ، في ذلك الوقت الذي وقف فيه القوم ليلقوا أقلامهم وهي القداح والسهام التي يقترعون بها عند ما اختصموا في كفالة مريم لمن تكون. ولعل في التأكيد على ذلك ما يوحي بقيمة هذه الحادثة لعلاقتها بالنمو الروحي لمريم عليهاالسلام.
(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الذين أراد الله لهم أن يبلغوا إلى مريم رسالة روحية تفتح قلبها وتقوي روحيتها ، وتبلغ بها قمة السعادة المنفتحة على حب الله ، (يا مَرْيَمُ) أيتها الروح الملائكة في صورة إنسان ، التي تحررت من ضغط الشهوة فتمردت على كل عناصر الإغراء والإغواء ، فكانت السيدة على نفسها قبل أن تكون السيدة على الآخرين ، أيتها الإنسانة الطاهرة التي عاشت في شخصيتها طهارة العقل والروح والجسد ، أيّتها العابدة التي عاشت العبادة في حياتها انطلاقة عبودية لله في عمق إحساسها بمعنى الربوبية ، وخفقة روح بحب الله ، ونبضة قلب يحمده ويشكره ، وهزة شعور ينفتح عليه ... أيتها الضعيفة في جسدها ، القوية في روحها ، الكبيرة بإيمانها ، أيها الطهر الذي لا يقترب إليه دنس ، والنقاء الذي لا يصيبه كدر ، والصفاء الذي لا يطوف به العكر ... (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لتكوني محل كرامته ومظهر قدرته ومعجزة إرادته ، (وَطَهَّرَكِ)