والثاني ـ أنه حمل للفظ بهيمة الأنعام على الوحشية دون الإنسية ، وذلك تفسير للّفظ بالمعنى التابع لمعانيه المختلف منها فيه.
وأما من قال : معناه أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد ، ولا يحلّ لكم الصيد وأنتم حرم. وهذا أشبهها معنى ، إلا أن نظام تقديره ليس بجار على قوانين العربية ؛ فإنه أضمر فيه ما لا يحتاج إليه ، وإنما ينبغي أن يقال ؛ [تقديره] (١) : أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، غير محلين صيدها وأنتم حرم ؛ فيصح (٢) المعنى ، ويقلّ فضول الكلام ، ويجرى على قانون النحو. وفيها مسألة بديعة (٣) ؛ وهي :
المسألة الثامنة عشرة ـ وهي تثنية الاستثناء في الجملة الواحدة ، وهي ترد على قسمين:
أحدهما ـ أن يتكرر ، ويكون الثاني من الأول ، كقوله تعالى (٤) : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ).
الثاني ـ أن يكونا جميعا من الأول ، كقوله هاهنا : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، فقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء من بهيمة الأنعام على أحد القولين وأظهرهما ، وقوله : إلا الصيد استثناء آخر أيضا معه (٥). وقد مهدنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين.
المسألة التاسعة عشرة ـ في تمثيل لهذا التقدير من حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلم : وذلك ما روى أنّ أبا قتادة الحارث بن ربعي الأنصارى قال : كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة وهم محرمون وأنا حلّ على فرس لي ، فكنت أرقى على الجبال ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت الناس مشرفين (٦) لشيء ، فذهبت لأنظر ، فإذا هو حمار وحشي ، فقلت لهم : ما هذا؟ فقالوا : لا ندري. فقلت : هو حمار وحشي. قالوا : هو ما رأيت. وكنت نسيت سوطى. فقلت لهم : ناولوني سوطى. فقالوا : لا نعينك عليه ، فنزلت وأخذته ثم
__________________
(١) من م.
(٢) في ا : يصح.
(٣) في ا : بديعة منه.
(٤) سورة الحجر ، آية ٥٩ ، ٦٠.
(٥) في ل ، والقرطبي : منه.
(٦) في ل : متشوفين.