وقال الخفاجي : قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد ، وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين ، وقيل إنه لو أخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود ، وجملة (يَسْعى) صفة (رَجُلٌ) وجوز كونها حالا منه من جوز مجيء الحال من النكرة ، وقوله تعالى : (قالَ) استئناف بياني كأنه قيل : فما ذا قال عند مجيئه؟ فقيل : قال (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وجوز كونه بيانا للسعي بمعنى قصد وجه الله عزوجل ولا يخفى ما فيه ، والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على اتباعهم كما أن خطابهم بيا قوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته ، وقوله تعالى : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى ، وقوله سبحانه : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي ثابتون على الاهتداء بما هم عليه إلى خير الدنيا والآخرة جملة حالية فيها ما يؤكد كونهم لا يسألون الأجر ولا ما يتبعه من طلب جاه وعلو ولذا جعلت إيغالا حسنا نحو قول الخنساء :
وإن صخرا لتأتم الهداة به |
|
كأنه علم في رأسه نار |
والظاهر أن الرجل لم يقل ذلك إلا بعد سبق إيمانه ، وروي أنه لما بلغته الدعوة جاء يسعى فسمع كلامهم وفهمه ثم قال لهم : أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه؟ قالوا : لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم قائلا : (يا قَوْمِ) إلخ ، وللنحويين في مثل هذا التركيب وجهان ، أحدهما أن تكون (مَنْ) بدلا من (الْمُرْسَلِينَ) بإعادة العامل كما أعيد إذا كان حرف جر نحو قوله تعالى : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) وإليه ذهب بعضهم وثانيهما وإليه ذهب الجمهور أنه ليس ببدل فإنه مخصوص بما إذا كان العامل المعاد حرف جر أما إذا كان رافعا أو ناصبا فيسمون ذلك بالتتبيع لا بالبدل ، واستدل بالآية على نقص من يأخذ أجرة على شيء من أفعال الشرع والبحث مستوفى في الفروع (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كم ينبئ عنه قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحا ولو قال : وإليه أرجع كان فيه تهديد بطريق التعريض ، وعد التعبير بإليه ترجعون بعد التعبير بما لي لا أعبد من باب الالتفات لمكان التعريض بالمخاطبين في (ما لِيَ لا أَعْبُدُ) إلخ فيكون المغبر عنه في الأسلوبين واحدا بناء على ما ذهب إليه الخطيب والسعد التفتازاني من أن التعريض إما مجاز أو كناية وهو هاهنا مجاز لامتناع إرادة الموضوع له فيكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له فيتحد المعبر عنه ، وحقق السيد السند أن المعنى التعريضي من مستتبعات الترتيب واللفظ ليس بمستعمل فيه بل هو بالنسبة إلى المستعمل فيه إما حقيقة أو مجاز أو كناية وعليه فضمير المتكلم في (ما لِيَ) إلخ ليس مستعملا في المخاطبين فلا يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا فلا التفات ، وجوز بعضهم كون الآية من الاحتباك والأصل (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) وإليه أرجع ومالكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون فحذف من الأول نظير ما ذكر في الثاني وبالعكس وهو مفوت لما سمعت ، وظاهر كلام الواحدي أنه لا تعريض في الآية حيث قال : لما قال الرجل : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) إلخ رفعوه إلى الملك فقال له الملك : أفأنت تتبعهم؟ فقال : (ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردون عند البعث فيجيزكم بكفركم ، ورد عليه بأنه إذا رجع الإنكار إليه دون القوم لم يكن لخطابهم بترجعون معنى وكان الظاهر أرجع.