ليس أعظم من خسرانهم في الدنيا من هذه الحيثية فإن عذابهم في الآخرة ينقطع ويعقبه نعيم الأبد حتى يكادوا لا يخطر ببالهم أنهم عذبوا كذا قيل.
وقال بعضهم : إن التفضيل باعتبار ما في الآخرة أي هم في الآخرة أشد الناس خسرانا لا غيرهم لحرمانهم الثواب واستمرارهم في العقاب بخلاف عصاة المؤمنين ، ويلزم من ذلك كون عذابهم في الآخرة أعظم من عذابهم في الدنيا ويكفي هذا في البيان ، وقال الكرماني : إن أفعل هنا للمبالغة لا للشركة ، قال أبو حيان : كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ولم يتفطن لكون المراد أن خسران الكافر في الآخرة أشد من خسرانه في الدنيا فالاشتراك الذي يدل عليه أفعل إنما هو بين ما في الآخرة وما في الدنيا اه كلامه. وكأنه يسلم أن ليس للمؤمن خسران البتة وفيه بحث لا يخفى ، وتقديم (فِي الْآخِرَةِ) إما للفاصلة أو للحصر ، وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض شئون القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص ، وتصديره بحرفي التأكيد لإبراز كمال العناية بمضمونه وبنى الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليهالسلام للدلالة عليه في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٤٣] ولقي المخفف يتعدى لواحد والمضاعف يتعدى لاثنين وهما هنا نائب الفاعل والقرآن ، والمراد وإنك لتعطي القرآن تلقنه (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي أي حكيم وأي عليم ، وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته عليه الصلاة والسلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق ، والحكمة كما قال الراغب من الله عزوجل معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وجمع بينها وبين العلم مع أنه داخل في معناها لغة كما سمعت لعمومه إذ هو يتعلق بالمعدومات ويكون بلا عمل ودلالة الحكمة على أحكام العمل وإتقانه وللإشعار بأن ما في القرآن من العلوم منها ما هو حكمة كالشرائع ومنها ما هو ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.
وقوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي تلقاه صلىاللهعليهوسلم من لدنه عزوجل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر لهم وقت قول موسى عليهالسلام لأهله ، وجوز أن تكون (إِذْ) ظرفا لعليم. وتعقبه في البحر بأن ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول ، وقال في الكشف : ما يتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهوما معتبرا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدا لها كأنه قيل : ما أعلمه حيث فعل بموسىعليهالسلام ما فعل ، ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمة على الإطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير ا ه. ولا يخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم إن قول موسى عليهالسلام (إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) كان في أثناء سيره خارجا من مدين عند وادي طوى وكان عليهالسلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار ، والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك ؛ ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لا يستوحشوا إن أبطأ عليهالسلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالإتيان فإنها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لا محالة وإن تأخر ، وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش.
ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد ، لا يقال : إنه عليهالسلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لأنا نقول : ما