وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي «وأتبع» بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع ، وقيل : ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا و (ما) إما مصدرية أو موصولة والواو للحال ، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر ، والمعنى على الأول (إِلَّا قَلِيلاً) نجيناهم وقد هلك سائرهم ، وأما قوله سبحانه : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) فقد قالوا : إنه لا يحسن جعله قيدا للإنجاء إلا من حيث إنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائرين فيكون اعتراضا ، أو حالا من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) والحال الأول من مفعول (أَنْجَيْنا) المقدر ، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة ، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا ، والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل : (أَنْجَيْنا) القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا ، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل : فاعل ـ اتبع ما أترفوا ـ أو الكلام على القلب فتدبر (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى) أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها ، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية ، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي ، وقوله سبحانه : (بِظُلْمٍ) أي ملتبسا به قيل : هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلّا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة ، وقوله جلّ وعلا : (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) حال من المفعول والعامل فيه عامله ، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين ، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك ، وهذا ما اختاره ابن عطية ، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه سبحانه ، ومن ذلك قدم الفقهاء ـ عند تزاحم الحقوق ـ حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور ، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل عليهمالسلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي ، فالوجه كما قال : حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه ، والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي ، والبعض الآخر متوجها إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى ، لكن أخرج الطبراني ، وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأل عن تفسير هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) فقال عليه الصلاة والسلام : وأهلها ينصف بعضهم بعضا» وأخرجه ابن أبي حاتم. والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا ، وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري ، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلّا فالأمر مشكل ، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض البعض كما ترى فافهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق ، ونظير ذلك قوله سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣] وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول