والرابع مقام المعرفة ، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة ، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات ، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها ؛ والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق ، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله :
أما الخيام فإنها كخيامهم |
|
وأرى نساء الحي غير نسائها |
(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية ، أو لا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم ، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها ، ويقال لكل محدث ـ كلمة ـ لأنه أثر الكلمة (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي لا تتأثر به (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم و (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بما ينبغي أن يفعل بهم. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحق بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ) إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية ، ومن هنا قال بعضهم : لو لا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم ، وأنشد بعض المجازيين :
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى |
|
ويجمعني بالليل والهم جامع |
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا |
|
لي الليل هزتني إليك المضاجع |
(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية ، وقيل : الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أي معلولا يجانسه (سُبْحانَهُ) أي أنزهه جل وعلا من ذلك (هُوَ الْغَنِيُ) الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغنى وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلخ ، وقوله سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) إلخ أمر له صلىاللهعليهوسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليهالسلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكائدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهمالسلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء ، أو أمر له صلىاللهعليهوسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أي إيمانا حقيقيا (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي منقادين ، أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله ، فإن شرط