يشاهدها إلّا من حضرها ، ومعجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة ، وخرقه للعادة فى أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ثابت ، فلا يمر عصر من الأعصار إلّا ويظهر فيه شىء مما أخبر أنه سيكون ، ليدل على صحة دعواه ، والمعجزات كانت حسية تشاهد بالأبصار ، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة ، فيكون من يتبعه فيها أكثر ، فما يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهديه ، وما يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرّا.
ومن هنا كان استبطان القرآن للبيان والإعجاز معا فى وقت واحد دليلا على صدقه وعالمية رسالته ، وذلك لأن الجاحد العريق فى الجحود لا يمكن أن يؤمن إلّا إذا صدمته خارقة تهدم مذهبه المادى المتأصل فى أعماقه وتهدده فى الوقت نفسه بخارقة مثلها تأتى على ما بناه من أمجاد مادية فى لمح البصر ، وتلك هى سنة الله الماضية التى سجلها القرآن فى تواريخ الرسل ، ولفت إليها أنظار الناس فى كل زمان فقال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) (١).
ولقد كان القرآن وما يزال وافيا بحاجات البشر فى الإقناع والتحدى كلما فرح جيل بما عنده من العلم ، وما زال العلم يكشف من أسراره كل يوم عن جديد يكشف عن أخطاء العلم فى أحدث نظرياته ، فإنكار إعجازه ـ على هذا ـ يعتبر تآمرا على دعوة الإسلام ، وعملا لئيما على انحسار امتدادها ، وتجريدا له من سلاحه الهادف الذى زوّده الله تعالى به لا سيما بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، بل وإنكارا لما هو واقع ملموس يشهد له العدو والصديق معا ، بل إن إسلام العلماء فى العصر الحديث ما كان إلّا على ضوء لون من هذا التحدى فى مختلف فروع المعرفة.
هل كان يمكن أن يؤمن العرب دون أن يذعنوا لإعجاز القرآن إلى جانب إذعانهم لوضوح البيان؟
__________________
(١) سورة غافر : ٨٢ ، ومحمد : ١٠.