إعدادات

في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم

الكشّاف [ ج ٢ ]

الكشّاف [ ج ٢ ]

582/752
*

والإهلاك ، كأنه قيل : إنا أهلكنا قوما مجرمين ، ولكن آل لوط أنجيناهم. وأمّا في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصا (١) بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأوّل. فإن قلت : فقوله (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) بم يتعلق على الوجهين؟ قلت : إذا انقطع الاستثناء جرى مجرى خبر «لكنّ» في الاتصال بآل لوط ، لأنّ المعنى. لكن آل لوط منجون ، وإذا اتصل كان كلاما مستأنفاً ، كأنّ إبراهيم عليه السلام قال لهم : فما حال آل لوط ، فقالوا : إنا لمنجوهم. فإن قلت : فقوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ممّ استثنى ، وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت : استثنى من الضمير المجرور في قوله (لَمُنَجُّوهُمْ) وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء ، لأنّ الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط ، إلا امرأته ، كما اتحد الحكم في قول المطلق : أنت طالق ثلاثاً ، إلا اثنتين ، إلا واحدة. وفي قول المقرّ : لفلان علىّ عشرة دراهم ، إلا ثلاثة ، إلا درهما. فأمّا في الآية فقد اختلف الحكمان ، لأنّ (إِلَّا آلَ لُوطٍ) متعلق بأرسلنا ، أو بمجرمين. و (إِلَّا امْرَأَتَهُ) قد تعلق بمنجوهم ، فأنى يكون استثناء من استثناء. وقرئ (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتخفيف والتثقيل. فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٢) والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم ، ولذلك فسر العلماء تقدير الله أعمال العباد بالعلم. فإن قلت : فلم أسند الملائكة فعل التقدير ـ وهو لله وحده ـ إلى أنفسهم ، ولم يقولوا : قدّر الله؟ قلت : لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم ، كما

__________________

(١) قوله «فلا يكون الإرسال مخلصا» لعله : مختصا. (ع)

(٢) عاد كلامه. قال محمود : «فان قلت لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الخ» قال أحمد : وهذه أيضاً من دفائنه الاعتزالية في جحد القضاء والقدر ، واعتقاد أن الأمر أنف ، لأنهم لا يعتقدون أن الله تعالى مريد لأكثر أفعال عبيده من معصية ومباح ونحوهما ولا مقدر لها على العبيد ، بمعنى أنه مريد ولكنه عالم بما سيفعلونه على خلاف مشيئته وإرادته. فالتقدير عندهم هو العلم لا الارادة ، ثم استدل على أن التقدير هو العلم بتقدير فعله عن العمل ، وذلك من خواص فعل العلم وأخواته ، فانظر إلى بعد غوره ودقة فطنته في ابتغاء آية يلفقها ويعاند بها البراهين الواضح فلقها ، وفي كلامه شاهد على رده ، فان التقدير عنده مضمن معنى العلم ، ومن شأن الفعل المضمن معنى آخر : أن يبقى على معناه الأصلى ، مضافا إليه المعنى الطارئ فيفيدهما جميعاً ، فالتقدير إذاً كما أفاد العلم الطارئ يفيد الارادة أصلا ووضعاً. والله أعلم ، على أن من الناس من جعل قوله تعالى (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) من كلامه تعالى غير محكي عن الملائكة ، وهو الظاهر ، فان الذي يجعله من قول الملائكة يحتاج في نسبتهم التقدير إلى أنفسهم إلى تأويل ، ويجعله من باب قول خواص الملك : دبرنا كذا ، وأمرنا بكذا ، وإنما يعنون دبر الملك وأمر ، وبذلك أولة الزمخشري. وإن كان أصله لا يحتاج معه إلى التأويل ، لأنه إذا جعل قدرنا بمعنى علمنا إنها لمن الغابرين ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك باخبار الله تعالى إياهم به ، وإنما يحتاج إلى التأويل : من جعل قدرنا بمعنى أردنا وقضينا وجعله من قول الملائكة ، والله أعلم.