فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم ، فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم وأظهر إسلامه ، فقالوا لمعاوية : احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء. يا قيل ، اختر لنفسك ولقومك ، فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث ، فاستبشروا بها وقالوا هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ، ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا. فإن قلت : ما فائدة نفى الإيمان عنهم في قوله (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم كمرثد بن سعد ، ومن نجا مع هود عليه السلام ، كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، ليؤذن أنّ الهلاك خص المكذبين ، ونجى الله المؤمنين.
__________________
ـ وجلهمة بن الحلس خال معاوية بن بكر ، ولقمان بن عاد ، كل منهم مع نفر من رهطه ليدعوا الله بالسقيا عند الكعبة ، فنزلوا عند معاوية بن بكر فأكرمهم وبعث إليهم الجرادتين لتغنيا لهم ـ وهما قينتان مغنيتان أول من غنى في نساء العرب ـ فنسوا قومهم من كثرة اللهو والطرب. فقال معاوية : هلك أخوالى ، ولو قلت لهم شيئا ظنوا بى بخلا. فأنشأ هذا ، وأمر الجرادتين بغنائه لهم. والهينمة : صوت خفى لا يفهم. والمراد بها دعاء الله بالسقيا. ويسقينا غماما : أى ماء غمام. ما يبينون الكلام ، لضعفهم من العطش. فليس نرجو» أى ليس نحن نرجو لها أى لعاد. ويروى «به» أى بسبب العطش. وحق الرواية «بها» أى في أرض عاد. الشيخ ولا الغلام. والعيمة ، شدة الشهوة إلى اللبن. والمراد بها مطلق الفاقة. والعيامى : جمع عيم بالتشديد ، أى رثيئة الحال ، وأصله عيائم ، فقلب إلى عيامى ، كما روى أيامى ، وهو جمع أيم ، وأصله أيائم ، أى فاقدات الأزواج. فالمعنى على التشبيه. ويجوز أن المراد : نساءكم التي تركتموهن كأنهن بلا أزواج هناك. وتكرير النساء للاستعطاف عليهن. والعادي : نسبة لعاد ، وكانوا الغلاظ الشداد. والوحش : اسم جنس جمعى ، واحده وحشى ، كانس وإنسى ، وترك وتركى. فيذكر باعتبار لفظه ، ويؤنث باعتبار جمعيته. وروى «بهما» ونهاركم : نصب على الظرف ، و «من وقد قوم» تمييز مقترن بمن ، والسلام عطف على التحية ، وفيه تورية لأنه يشير إلى انقطاع الكلام ، كما أن المجتمعين يأتيان به عند المفارقة. فلما سمع القوم ذلك انطلقوا إلى للكعبة ، فلحقهم مرثد بن سعد وكان مؤمنا فأخروه ، فدعا الله تعالى لنفسه لا للقوم. وقال قيل : اللهم إن كان هود صادقا فاسقنا ، فأنشأ سحابة بيضاء وسحابة حمراء وسحابة سوداء. ثم نودي : يا قيل ، اختر أيها شئت. فقال : أما البيضاء فجفل ، وأما الحمراء فعارض. وأما السوداء فهيطل ، فاختارها فنودي. قد اخترت رمادا أرمدا ، لا يبقى من عاد أحدا ، لا والدا ولا ولدا. فسارت السوداء إلى عاد فأهلكتهم ، وجاء لقمان بن عاد بعد أن فرغوا من دعواتهم فقال : اللهم إنى جئتك وحدي ، فأعطنى سؤلي. وسأل عمر سبعة أنسر ، وكان عمر النسر ثمانين سنة ، فكان يأخذ النسر من وكره فلا يزال عنده حتى يموت ، وكان آخر نسوره اسمه لبد ، فلما مات مات. ثم إن ذلك كان قبل وجود مكة وزمزم ، لأنهما إنما وجدان في زمن إبراهيم وإسماعيل ، فلعل معاوية بن بكر كان سكنه قريبا من موضع مكة ، لا في نفس موضعها ، لأنه إذ ذاك لم تكن فيه كلأ ولا ماء.