والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول كما يأتي بيانه في تحويل القبلة ، والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله ، وهو موجود في قصة الذبيح وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس على ما يأتي بيانه في سورتي الإسراء والصافات.
... الجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي ، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى ، وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه كقوله تعالى (في سورة النحل) (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) وهناك يأتي القول فيه ...
ـ اختلفت عبارات أئمتنا في حد النسخ (أي في تعريفه) فالذي عليه الحذاق من أهل السنة : أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا ، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر. وزاد : لولاه لكان السابق ثابتا. فحافظا على معنى النسخ اللغوي إذ هو بمعنى الرفع والإزالة وتحرزا من الحكم العقلي ، وذكرا الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيرها ، وليخرج القياس والإجماع إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما وقيد بالتراخي لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا نسخا ، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله.
وقال القرطبي : «أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة».
وقال : لمعرفة الناسخ طرق منها : أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليهالسلام : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا ونحوه» ومنها أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق وكان المنسوخ معلوما قبله ، أو يقول نسخ حكم كذا بكذا ، ومنها : أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية والله الموفق للهداية.
فصل في التأويل :
تعمدنا عند قوله تعالى (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ