الذوق الصحيح التامّ أفاد أنّ مشاهدة الحقّ تقتضي الفناء الذي لا يبقى معه للمشاهد فضلة يضبط بها ما أدرك.
وفي التحقيق الأتمّ أنّه متى شهد أحد الحقّ فإنّما يشهد بما فيه من الحقّ ، وما فيه من الحقّ عبارة عن تجلّيه الغيبي الذي قبله المتجلّى له بأحديّة عينه الثابتة المتعيّنة في العلم ، التي يمتاز بها عن غيره من الوجه الخاصّ دون واسطة ، فاستعدّ به لقبول ما يبدو له من التجلّيات الظاهرة فيما بعد (١) بواسطة المظاهر الصفاتيّة والأسمائيّة.
وبهذا حصل الجمع بين قولهم : «ما يعرف الله إلّا الله» وقولنا «لا يمكن إدراك شيء بما ينافيه» وبين دعوى العارف أنّه قد عرف الله معرفة ذوق وشهود. و (٢) من عرف سرّ قرب الفرائض والنوافل وما بيّنّا في ذلك ، تنبّه لما أومأنا إليه.
وعلى كلّ حال ، فنحن مقيّدون من حيث استعدادنا ومراتبنا (٣) وأحوالنا وغير ذلك ، فلا نقبل إلّا مقيّدا مثلنا وبحسبنا كما مرّ ، والتجليات الواردة علينا ـ ذاتيّة كانت أو أسمائيّة وصفاتيّة ـ فلا تخلو عن أحكام القيود المذكورة ، ومن التقط ما قدّمنا من التنبيهات ، وجمع النكت المبثوثة مستحضرا لها ، استغنى عن مزيد البيان والتقرير ، فإنّه قد سبق ذكر ما يستنتج منه مثل هذا وغيره من الأسرار الجليلة.
ثم نقول : وأمّا التقرير (٤) العقلي فهو أن يقال : المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمّى ، فلو كان لله بحسب ذاته اسم ، لكان المراد من ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمّى ، فإذا ثبت بالاتّفاق أنّ أحدا لا يعرف ذات الحقّ البتّة ، لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة فثبت أنّ هذا النوع من الاسم مفقود.
وأيضا فالاسم الموضوع إنّما يحتاج إليه في الشيء الذي يدرك بالحسّ ويتصوّر في الوهم وينضبط في العقل ، حتى يمتاز بذلك الاسم الموضوع إلى ذاته المخصوصة ، والحقّ سبحانه يمتنع إدراكه بالحواسّ ، (٥) وكذا تصوّره في الأوهام ، وانضباطه بمدارك العقول ،
__________________
(١) ب : دون.
(٢) ق : لم يرد.
(٣) ق : مرتبتنا.
(٤) هذا قسيم التقرير الذوقي الذي مرّ في ص ١٥٠.
(٥) ق : الحواسّ.