وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، وهو باطل ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال (عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذلك إلا خلق الداعي إلى الضلال) (١). ثم إن القوم لما اعتذروا بهذين العذرين ، قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي : من النار (فَإِنْ عُدْنا) لما أنكرنا (فَإِنَّا ظالِمُونَ) فعند ذلك أجابهم الله تعالى فقال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)
فإن قيل : كيف يجوز أن يطلبوا الخروج وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا : يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون على وجه الغوث والاسترواح (٢).
قوله : (اخْسَؤُا فِيها) أقيموا فيها ، كما يقال للكلب إذا طرد اخسأ ؛ أي : انزجر كما تنزجر الكلاب إذا زجرت ، يقال : خسأ الكلب وخسأ بنفسه (٣). (وَلا تُكَلِّمُونِ) في رفع العذاب فإني لا أرفعه عنكم ، وليس هذا نهيا ، لأنه لا تكليف في الآخرة (٤).
قال (٥) الحسن : هو آخر كلام يتكلم به أهل النار ، ثم لا يتكلمون بعده إلا الشهيق والزفير. ويصير لهم عواء كعواء الكلب (٦) لا يفهمون ولا يفهمون (٧).
قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) الآية. العامة على كسر همزة (إنه) استئنافا (٨). وأبي والعتكي : بفتحها أي : لأنه (٩) والهاء ضمير الشأن. قال البغوي : الهاء في إنه عماد ، وتسمى المجهولة أيضا (١٠).
قوله : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرأ الأخوان ونافع هنا وفي ص (١١) بكسر السين. والباقون : بضمها في الموضعين (١٢).
و (سخريا) مفعول ثان للاتخاذ (١٣). واختلف في معناها فقال الخليل (١٤)
__________________
(١) ما بين القوسين سقط من ب.
(٢) آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٥ ـ ١٢٦.
(٣) أي : أنه يتعدى ولا يتعدى. اللسان (خسأ).
(٤) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ١٢٦.
(٥) في ب : وقال.
(٦) عوى الكلب والذئب يعوي عيا وعواء وعوة وعوية : لوى خطمه ، ثم صوت ، وقيل : مد صوته ولم يفصح. اللسان (عوى).
(٧) انظر البغوي ٦ / ٤٤.
(٨) انظر البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.
(٩) المختصر (٩٩) ، المحتسب ٢ / ٩٨ ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.
(١٠) البغوي ٦ / ٤٤.
(١١) وهو قوله تعالى : «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» [ص : ٦٣].
(١٢) السبعة (٤٤٨) ، الحجة لا بن خالويه (٢٥٨) ، الكشف ٢ / ١٣١ ، النشر ٢ / ٣٢٩. الإتحاف (٣٢١).
(١٣) انظر التبيان ٢ / ٩٦١.
(١٤) انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤ / ٢٤ ، إعراب القرآن للنحاس ٣ / ١٢٤ حجة أبي زرعة (٤٩٢) ، البحر المحيط ٦ / ٤٢٣.