استوجب المؤمن على الله بحسن عمله أجرا ، وعندنا الاستيجاب حصل بحكم الوعد. وعند المعتزلة: بذات الفعل ، وهو باطل ؛ لأنّ نعم الله كثيرة ، وهي موجبة للشكر والعبوديّة ، فلا يصير الشّكر والعبودية بموجب لثواب آخر ؛ لأنّ أداء الواجب لا يوجب شيئا آخر.
واعلم أنّه تعالى ، لمّا أثبت الأجر المبهم ، أردفه بالتفصيل ، فبيّن أولا صفة مكانهم ، فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان ، إذا أقام به ، فيجوز أن يكون المعنى : أولئك لهم جنات إقامة [كما يقال : دار إقامة](١).
ويجوز أن يكون العدن اسما [لموضع](٢) معيّن في الجنّة ، وهو وسطها.
وقوله : «جنّات» اسم جمع ، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ثم قال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] ويمكن أن يكون المراد نصيب كلّ واحد من المكلّفين جنّة على حدة ، ثم ذكر أنّ من صفات تلك الجنات أنّ الأنهار تجري من تحتها ، وذلك لأنّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار ، ثمّ ذكر ثانيا أنّ لباسهم فيها ينقسم قسمين : لباس التستّر ، ولباس التحلّي.
فأمّا لباس التحلّي فقال : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) فقيل : على كلّ واحد منهم ثلاثة أسورة : سوار من ذهب لهذه الآية ، وسوار من فضّة ؛ لقوله : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١] ، وسوار من لؤلؤ ؛ لقوله (وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣].
وأمّا لباس التستّر ، فلقوله : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ).
فالأول : هو الدّيباج الرّقيق.
والثاني : هو الديباج الصّفيق.
وقيل : أصله فارسيّ معرّب ، وهو «إستبره» : أي غليظ.
قوله : (مِنْ أَساوِرَ) : في «من» هذه أربعة أوجه :
الأوّل : أنها للابتداء.
والثاني : أنها للتبعيض.
والثالث : أنها لبيان الجنس ، أي : أشياء من أساور.
والرابع : أنها زائدة عند الأخفش ؛ ويدلّ عليه قوله : (وَحُلُّوا أَساوِرَ) [الإنسان : ٢١].
[ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء](٣).
وأساور جمع أسورة ، [وأسورة] جمع سوار ، كحمار وأحمرة ، فهو جمع الجمع. وقيل : جمع إسوار ، وأنشد : [الرجز]
__________________
(١) سقط من أ.
(٢) في أ: المكان.
(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٢.