وقال أبو عبيدة والقتيبيّ : الطائر عند العرب الحظّ ، وتسمّيه الفرس البخت ، فالطائر ما طار له من خير وشرّ من قولهم : طار سهم فلان بكذا ، وخصّ العنق من سائر الأعضاء ؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين ، أو يشين ، فما يزين ، فهو كالتطوّق والحليّ ، وما يشين ، فهو كالغلّ ، فعمله إن كان خيرا فهو زينة كالتطوق ، أو كان شرّا ، فهو شين كالغلّ في رقبته ، فقوله : «في عنقه» كناية عن اللّزوم ؛ كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي : قلّدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلّدتك كذا ، وطوّقتك كذا ، أي : صرفته إليك ، وألزمتك إياه ، ومنه «قلّده السّلطان كذا» أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ، ومكان الطوق ، ومنه يقال : فلان يقلّد فلانا أي : جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة في عنقه.
وهذه الآية أدلّ دليل على أنّ كلّ ما قدّره الله ـ تعالى ـ على الإنسان ، وحكم به عليه في سابق علمه ، فهو واجب الوقوع ، ممتنع العدم ؛ لأنه تعالى بيّن أن ذلك العمل لازم له ، وما كان لازما للشّيء ؛ كان ممتنع الزّوال عنه ، واجب الحصول له ، وأيضا : فإن الله ـ تعالى ـ أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله : «ألزمناه» ، وذلك تصريح بأنّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (١).
قوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً).
العامة على «نخرج» بنون العظمة مضارع «أخرج» ، و«كتابا» فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به.
والثاني : أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف ؛ إذ التقدير : ونخرجه له كتابا ، أي: ونخرج الطائر.
ويروى عن أبي جعفر : «ويخرج» مبنيّا للمفعول ، «كتابا» نصب على الحال ، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر ، وعنه أنّه رفع «كتابا» وخرّج على أنه مرفوع بالفعل المبنيّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقة.
وقرأ الحسن (٢) : «ويخرج» بفتح الياء وضمّ الراء ، مضارع «خرج» «كتاب» فاعل به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نصبا «كتابا» على الحال ، والفاعل ضمير الطائر ، أي: ويخرج له طائره في هذا الحال ، وقرىء (٣) «ويخرج» بضمّ الياء وكسر الراء ، مضارع «أخرج» والفاعل ضمير الباري تعالى ، «كتابا» مفعول.
__________________
(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١ / ٢٢٣) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص (٧٦).
(٢) ينظر في قراءاتها النشر ٢ / ٣٠٦ ، والإتحاف ٢ / ١٩٤ ، والقرطبي ١٠ / ١٥٠ ، والبحر ٦ / ١٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٧٦.
(٣) نسبها الفراء في معاني القرآن ٢ / ١١٨ إلى أبي جعفر المدني ، وينظر : البحر ٦ / ١٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٦.