الطّعن فيه ، علمنا أنّه أتى بتلك الأقاصيص ، مطابقة للتوراة والإنجيل ، مع أنّه ما طالعهما ، ولا تتلمذ لأحد فيهما ، فدلّ ذلك : على أنّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي.
الحجة الثانية : أنّ كتب الله المنزّلة ، دلّت على مقدم محمد صلىاللهعليهوسلم كما تقدم في تفسير قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] فكان مجيء محمّد صلىاللهعليهوسلم موافقا لهما في تلك الكتب ، ومصدقا لما فيها من البشارة بمجيئه ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه.
والدليل الثاني : قوله تعالى : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) واعلم : أنّ العلوم : إمّا أن تكون دينيّة ، أو ليست دينيّة.
والقسم الأول أرفع حالا ، وأعظم شأنا من القسم الثاني ، والدينيّة : إمّا أن تكون علم العقائد والأديان ، أو علم الأعمال.
فأما علم العقائد والأديان : فهو عبارة عن معرفة ذاته ، ومعرفة صفات جلاله ، وصفات أفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل ، وتفاريعها ، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب ، ولا يقرب منه.
وأمّا علم الأعمال فهو :
إمّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أنّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن.
وإمّا عبارة عن علم الباطن ورياضة القلوب ؛ ففي القرآن من مباحث هذا العلم ، ما لا يكاد يوجد في غيره ؛ كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] الآية ، إلى غير ذلك.
فثبت أنّ القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة ؛ فكان ذلك معجزا.
ثم قال : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وذلك لأنّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة ؛ لا بدّ وأن يقع فيه نوع من التناقض ، وحيث خلا هذا الكتاب عنه ، علمنا أنّه من عند الله ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].
قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) الاية.
لمّا أقام الدّلائل على أنّ هذا القرآن ، لا يليق بحاله أن يكون مفترى ، أعاد مرّة أخرى بلفظ الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، إبطال هذا القول ، فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ، وقد تقدّم تقرير هذه الحجّة في البقرة ، عند قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣].
قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) : في «أم» هذه وجهان :