والثاني : أنّه مثل قوله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] ، والمعنى : لا تقدموا على إيذاء النّاس بالقتل والقهر ، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغيا.
قوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا) منصوب المحلّ نسقا على مفعول «حرّم» أي : وحرّم إشراككم عليكم ، ومفعول الإشراك (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وقد تقدّم بيانه في «الأنعام» ، تهكّم بهم ؛ لأنّه لا يجوز أن ينزل برهانا أن يشرك به غيره.
قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ) نسق على ما قبله أي : وحرّم قولكم عليه من غير علم ، وقد تقدّم الكلام عليه في هذه السّورة عند قوله (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
فإن قيل : كلمة «إنّما» تفيد الحصر ، إنّما حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء؟
فالجواب : إن قلنا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذّنوب فيه ، وإن حملنا الفاحشة على الزّنا ، والإثم على الخمر فنقول : الجنايات محصورة في خمسة :
أحدها : الجنايات على الإنسانيّة ، فهذا إنّما يحصل بالزّنا ، وهو المراد بقوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ).
وثانيها : الجنايات على العقول ، وهي شرب الخمر ، وإليه الإشارة بقوله «والإثم».
وثالثها ورابعها : الجنايات على النّفوس والأموال ، وإليه الإشارة بقوله : (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وخامسها : الجناية على الأديان ، وهي من وجهين :
أحدهما : الطّعن في توحيد الله تبارك وتعالى.
والثاني : الطعن في أحكامه ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
فلما كانت الجنايات هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتّوابع ، لا جرم كان ذكرها جار مجرى ذكر الكلّ ، فأدخل فيها كلمة «إنّما» المفيدة للحصر.
فإن قيل : الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقدير الآية الكريمة : إنّما حرّم ربي المحرمات ، وهو كلام خال عن الفائدة؟
فالجواب : كون الفعل فاحشة إنّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النّهي عنه فسقط السّؤال (١).
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٥٦.