رأوه قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منّي رأيا ونصحا ، قالوا : ادخل فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا وتقيّدوه ، وتحبسوه في بيت وتسدّوا باب البيت غير كوة وتلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربّصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء ، فصرخ عدوّ الله الشيخ النّجدي وقال : بئس الرأي والله إن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء البيت إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم.
قالوا : صدق الشّيخ.
وقال بعضهم : أخرجوه من عندكم تستريحوا من أذاه لكم.
فقال إبليس : ما هذا برأي ، تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ، ألم تروا حلاوة منطقه ، وطلاقة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك لاستمال قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم قالوا : صدق والله الشيخ.
فقال أبو جهل : إنّي أرى أن تأخذوا من كلّ بطن من قريش شابّا نسيبا وسطا فتيّا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه بين القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحيّ من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها فيرضون بأخذ الدّية فتؤدي قريش ديته.
فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأيا ، فتفرقوا على رأي أبي جهل فأوحى الله تعالى إلى نبيّه بذلك ، وأذن له في الخروج إلى المدينة ، وأمره ألّا يبيت في مضجعه ، فأمر الرسول عليّا أن يبيت في مضجعه وقال : اتّشح ببردتي ؛ فإنّه لن يصل إليك أمر تكرهه ، ثمّ خرج النبيصلىاللهعليهوسلم فأخذ قبضة من تراب ، وأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التّراب على رءوسهم ، وهو يقرأ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلى قوله : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٨ ـ ٩] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلف عليّا بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي كانت توضع عنده لصدقه وأمانته ، وباتوا مترصّدين ، فلمّا أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليّا فبهتوا.
وقالوا له : أين صاحبك؟.
قال : لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ؛ فمكث فيه ثلاثا ثم قدم المدينة فذلك قوله : «وإذ يمكر بك الذين كفروا» (١).
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٢٦) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢ / ٤٦٦ ـ ٤٦٨).
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الدلائل.